You are on page 1of 27

‫من كتاب‬

‫دخول‬
‫• تعريف السيرة وأهميتها‬
‫• حياته صلى هللا عليه وسلم من مولده إلى بعثته‬
‫• المرحلة المكية‬
‫• المرحلة المدنية‬
‫• فترة الهدنة مع المشركين (‪6‬هـ ‪8 -‬هـ)‬
‫• فتح مكـة‬
‫• فترة دخول الناس في دين هللا أفواجا (‪8‬هـ ‪11 -‬هـ)‬
‫• وفاة الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫• شمائله صلى هللا عليه وسلم‬
‫الجزء االول‬

‫أو ًلا‬
‫‪:‬‬
‫• ‪ -‬السيرة لغة ‪:‬‬
‫سنة والطريقة‪ ،‬والحالة التي يكون‬
‫تعني ال ّ‬ ‫•‬
‫عليها اإلنسان وغيره‪ .‬يُقال فالن له سيرة‬
‫حسنة‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬سنعيدها سيرتها‬
‫األولى) (طه‪.)21:‬‬
‫‪ -‬السيرة اصطال احا‪:‬‬ ‫•‬
‫السيرة اصطال ًحا تعني قصة الحياة وتاريخها‪،‬‬ ‫•‬
‫وكتبها تس ّمى‪ :‬كتب السير‪ ،‬يُقال قرأت سيرة‬
‫فالن‪ :‬أي تاريخ حياته‪ .‬والسيرة النبوية تعني‬
‫مجموع ما ورد لنا من وقائع حياة النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم وصفاته ال ُخلقية وال َخلقية‪ ،‬مضافا‬
‫إليها غزواته وسراياه صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫أهمية السيرة ومكانتها‪:‬‬
‫‪ -1‬السيرة النبوية هي السبيل إلى فهم شخصية الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬من خالل‬
‫حياته وظروفه التي عاش فيها‪ ،‬للتأكد من أنه صلى هللا عليه وسلم لم يكن مجرد عبقري‬
‫سمت به عبقريته‪ ،‬ولكنه قبل ذلك رسول أيده هللا بوحي من عنده‪.‬‬
‫‪ -2‬تجعل السيرة النبوية بين يدي اإلنسان صورة للمثل األعلى في كل شأن من شؤون الحياة‬
‫الفاضلة‪ ،‬يتمسك به ويحذو حذوه‪ ،‬فقد جعل هللا تعالى الرسول محمدًا صلى هللا عليه وسلم‬
‫قدوة لإلنسانية كلها‪ ،‬حيث قال سبحانه‪( :‬لقد كان لكم في رسول هللا أسوة حسنة لمن كان‬
‫يرجو هللا واليوم اآلخر) (األحزاب‪.)21:‬‬
‫‪ -3‬السيرة النبوية تعين على فهم كتاب هللا وتذوق روحه ومقاصده‪ ،‬فكثير من آيات القرآن‬
‫الكريم إنما تفسرها وتجليها األحداث التي مرت برسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫تكون لدى‬‫‪ -4‬السيرة النبوية صورة مجسدة نيرة لمجموع مبادئ اإلسالم وأحكامه‪ ،‬فهي ّ‬
‫دارسها أكبر قدر من الثقافة والمعارف اإلسالمية‪ ،‬سواء ما كان منها متعلقًا بالعقيدة أو‬
‫األحكام أو األخالق‪.‬‬
‫سبُه صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫َن َ‬

‫الرسول صلى هللا عليه وسلم هو‪:‬‬


‫(محمــد بن عبد هللا بن عبد المطلب بن هاشــم ابن عبد مناف بن قصي بن كالب بن ُمرة بن كعب بن لُؤَيً‬
‫بن غالب بن فِهر بن مالك ابن النَّضر بن ِكنانة بن ُخزيمة بن ُمدركة بن إلياس بن ُمضر بن نزار بن معد‬
‫بن عدنان) (رواه البخاري) وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السالم‪.‬‬

‫طاهرا كري ًما حتى تزوج‬


‫ً‬ ‫وأبوه‪ :‬عبد هللا بن عبد المطلب‪ ،‬كان أجمل قريش (قبيلة قريش) وأحب شبابها إليها‪ ،‬عاش‬
‫بآمنة بنت وهب أم الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وأمه‪ :‬آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كالب‪ ،‬وزهرة هو أخو قصي بن كالب جد الرسول صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وكان أبوها سيد بني زهرة‪.‬‬
‫وجده‪ :‬عبد المطلب بن هاشم‪ ،‬هو سيد قبيلة قريش‪ ،‬أعطته رياستها لخصاله الوافرة‪ ،‬وقوة إرادته‪ ،‬وعزيمته على‬
‫فعل الخير لكل الناس‪ ،‬وقد اشتهر بحفر بئر (زمزم) التي تسقي الناس بمكة المكرمة إلى يومنا هذا‪.‬‬
‫عليه وسلم‪:‬‬ ‫مولده صلى هللا‬

‫ولـد سيـد المرسلـين صلى هللا عليه وسلم بشـعب بني هاشـم بمكـة في صبيحـة يــوم االثنين مـن شـهر ربيـع األول‪،‬‬
‫ولكن اليوم لم يثيت تحديدا في االحاديث الصحيحة و العـام هو عام الفيـل ‪ ،‬وألربعـين سنة خلت من ملك كسرى‬
‫أنو شروان‪ ،‬ويوافق ذلك سنة ‪ 571‬م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان ـ المنصور فورى ـ رحمه هللا ‪.‬‬
‫وروى ابــن سعــد أن أم رســول هللا صلى هللا عليه وسلم قالــت ‪ :‬لمــا ولـدتــه خــرج مــن فرجـى نــور أضــاءت‬
‫لـه قصـور الشام‪ .‬وروى أحمد والدارمى وغيرهمـا قريبـًا مـن ذلك‪.‬‬
‫وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميالد‪ ،‬فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى‪ ،‬وخمدت النار التي‬
‫يعبدها المجوس‪ ،‬وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت‪ ،‬روى ذلك الطبرى والبيهقى وغيرهما‪ .‬وليس‬
‫له إسناد ثابت‪ ،‬ولم يشهد له تاريخ تلك األمم مع قوة دواعى التسجيل‪.‬‬
‫مستبشرا ودخل به الكعبة‪ ،‬ودعا هللا وشكر له‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده‪،‬فجاء‬
‫واختار له اسم محمد ـ وهذا االسم لم يكن معروفًا في العرب ـ و َختَنَه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون‪.‬‬
‫وأول من أرضعته من المراضع ـ وذلك بعد أمه صلى هللا عليه وسلم بأسبوع ـ ث ُ َو ْيبَة موالة أبي لهب بلبن ابن لها‬
‫س ُروح‪ ،‬وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب‪ ،‬وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد األسد المخزومي‪.‬‬ ‫يقال له‪َ :‬م ْ‬
‫وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع ألوالدهم ابتعادًا لهم عن أمراض الحواضر؛‬
‫ولتقوى أجسامهم‪ ،‬وتشتد أعصابهم‪ ،‬ويتقنوا اللسان العربى في مهدهم‪ ،‬فالتمس عبد المطلب لرسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم المراضع‪ ،‬واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر‪ ،‬وهي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد هللا بن‬
‫الحارث‪ ،‬وزوجها الحارث ابن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة‪.‬‬
‫وإخوته صلى هللا عليه وسلم هناك من الرضاعة ‪ :‬عبد هللا بن الحارث‪ ،‬وأنيسة بنت الحارث‪ ،‬وحذافة أو جذامة‬
‫بنت الحارث [وهي الشيماء؛ لقب غلب على اسمها] وكانت تحضن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأبو‬
‫سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وكان عمه حمزة بن عبد المطلب‬
‫مسترضعًا في بني سعد بن بكر‪ ،‬فأرضعت أمه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يو ًما وهو عند أمه حليمة‪،‬فكان‬
‫حمزة رضيع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من جهتين‪ ،‬من جهة ثويبة ومن جهة السعدية‪.‬‬
‫ورأت حليمة من بركته صلى هللا عليه وسلم ما قضت منه العجب‬
‫شق الصدر‬

‫وهكذا رجع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى بني سعد‪ ،‬حتى إذا كان بعده بأشهر على قول ابن إسحاق‪،‬‬
‫وفي السنة الرابعة من مولده على قول المحققين وقع حادث شق صدره‪ ،‬روى مسلم عن أنس‪ :‬أن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم أتاه جبريل‪ ،‬وهو يلعب مع الغلمان‪ ،‬فأخذه فصرعه‪ ،‬فشق عن قلبه‪ ،‬فاستخرج‬
‫ست من ذهب بماء زمزم‪ ،‬ثم‬ ‫القلب‪ ،‬فاستخرج منه علقة‪ ،‬فقال‪ :‬هذا حظ الشيطان منك‪ ،‬ثم غسله في َط ْ‬
‫أل َ َمه ـ أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ـ ثم أعاده في مكانه‪ ،‬وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعنى ظئره ـ‬
‫فقالوا‪ :‬إن محمدًا قد قتل‪ ،‬فاستقبلوه وهو ُم ْنت َ ِق ُع اللون ـ أي متغير اللون ـ قال أنس‪ :‬وقد كنت أرى أثر ذلك‬
‫المخيط في صدره‪.‬‬
‫إلى أمه الحنون‬
‫وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه‪ ،‬فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين‪.‬‬
‫ورأت آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبره بيثرب‪ ،‬فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ نحو‬
‫خمسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتيم ـ محمد صلى هللا عليه وسلم ـ وخادمتها أم أيمن‪ ،‬وقيمها عبد المطلب‪،‬‬
‫شهرا ثم قفلت‪ ،‬وبينما هي راجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق‪ ،‬ثم اشتد حتى ماتت باألب َْواء بين‬
‫ً‬ ‫فمكثت‬
‫مكة والمدينة‪.‬‬
‫إلى جده العطوف‬
‫وعاد به عبد المطلب إلى مكة‪ ،‬وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي أصيب بمصاب‬
‫ق عليه رقة لم يرقها على أحد من أوالده‪ ،‬فكان ال يدعه لوحدته المفروضة‪ ،‬بل‬ ‫جديد نَكَأ الجروح القديمة‪ ،‬فَ َر َّ‬
‫يؤثره على أوالده‪ ،‬قال ابن هشام‪ :‬كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة‪ ،‬فكان بنوه يجلسون حول‬
‫ً‬
‫إجالال له‪ ،‬فكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يأتى‬ ‫فراشه ذلك حتى يخرج إليه‪ ،‬ال يجلس عليه أحد من بنيه‬
‫وهو غالم جفر حتى يجلس عليه‪ ،‬فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه‪ ،‬فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم‪ :‬دعوا‬
‫ابني هذا‪ ،‬فوهللا إن له لشأنًا‪ ،‬ثم يجلس معه على فراشه‪ ،‬ويمسح ظهره بيده‪ ،‬ويسره ما يراه يصنع‪.‬‬
‫ولثمانى سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى هللا عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة‪ ،‬ورأي‬
‫قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه‪.‬‬
‫إلى عمه الشفيق‬
‫ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه‪ ،‬وضمه إلى ولده وقدمه عليهم واختصه بفضل احترام‬
‫وتقدير‪ ،‬وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه‪ ،‬ويبسط عليه حمايته‪ ،‬ويصادق ويخاصم من أجله‪ ،‬وستأتي نبذ‬
‫من ذلك في مواضعها‪.‬‬
‫ولما بلغ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم اثنتى عشرة سنة ـ قيل‪ :‬وشهرين وعشرة أيام ـ ارتحل به أبو طالب‬
‫وران‪ ،‬وكانت في ذلك الوقت قصبة‬ ‫تاجرا إلى الشام‪ ،‬حتى وصل إلى بُص َْرى ـ وهي معدودة من الشام‪ ،‬وقَ َ‬
‫ص َبة ل ُح َ‬ ‫ً‬
‫يرى‪ ،‬واسمه ـ فيما يقال‪:‬‬‫بح َ‬
‫للبالد العربية التي كانت تحت حكم الرومان‪ .‬وكان في هذا البلد راهب عرف بَ ِ‬
‫جرجس‪ ،‬فلما نزل الركب خرج إليهم‪ ،‬وكان ال يخرج إليهم قبل ذلك‪ ،‬فجعل يتخلّلهم حتى جاء فأخذ بيد رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقال‪ :‬هذا سيد العالمين‪ ،‬هذا رسول رب العالمين‪ ،‬هذا يبعثه هللا رحمة للعالمين‪ .‬فقال‬
‫له [أبو طالب و] أشياخ قريش‪[ :‬و] ما علمك [بذلك]؟ فقال‪ :‬إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر وال شجر‬
‫إال خر ساجدًا‪ ،‬وال يسجدان إال لنبى‪ ،‬وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة‪[ ،‬وإنا نجده‬
‫في كتبنا]‪ ،‬ثم أكرمهم بالضيافة‪ ،‬وسأل أبا طالب أن يرده‪ ،‬وال يقدم به إلى الشام؛ خوفًا عليه من الروم واليهود‪،‬‬
‫فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة‪.‬‬
‫حياة الكدح‬
‫ولم يكن له صلى هللا عليه وسلم عمل معين في أول شبابه‪ ،‬إال أن الروايات توالت أنه كان يرعى‬
‫غن ًما‪ ،‬رعاها في بني سعد‪ ،‬وفي مكة ألهلها على قراريط‪ ،‬ويبدو أنه انتقل إلى عمل التجارة حين‬
‫شب‪،‬فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب المخزومي فكان خير شريك له‪ ،‬ال يدارى‬
‫وال يمارى‪ ،‬وجاءه يوم الفتح فرحب به‪ ،‬وقال‪ :‬مرحبًا بأخي وشريكي‪.‬‬
‫تاجرا إلى الشام في مال خديجة رضي هللا عنها قال ابن‬
‫ً‬ ‫وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج‬
‫إسحاق‪ :‬كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال‪ ،‬تستأجر الرجال في مالها‪،‬‬
‫تجارا‪ ،‬فلما بلغها عن رسول هللا صلى هللا‬
‫ً‬ ‫وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم‪ ،‬وكانت قريش قو ًما‬
‫عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه‪ ،‬وعظم أمانته وكرم أخالقه بعثت إليه‪ ،‬فعرضت عليه أن‬
‫تاجرا‪ ،‬وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار‪ ،‬مع غالم لها‬‫ً‬ ‫يخرج في مال لها إلى الشام‬
‫يقال له‪ :‬ميسرة‪ ،‬فقبله رسول هللا صلى هللا عليه وسلم منها‪ ،‬وخرج في مالها ذلك‪ ،‬وخرج معه‬
‫غالمها ميسرة حتى قدم الشام‪.‬‬
‫زواجه بخديجة‬
‫ولما رجع إلى مكة‪ ،‬ورأت خديجة في مالها من األمانة والبركة ما لم تر قبل هذا‪ ،‬وأخبرها غالمها ميسرة‬
‫بما رأي فيه صلى هللا عليه وسلم من خالل عذبة‪ ،‬وشمائل كريمة‪ ،‬وفكر راجح‪ ،‬ومنطق صادق‪ ،‬ونهج‬
‫أمين‪ ،‬وجدت ضالتها المنشودة ـ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبي عليهم ذلك ـ‬
‫فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه‪ ،‬وهذه ذهبت إليه صلى هللا عليه وسلم تفاتحه أن‬
‫يتزوج خديجة‪ ،‬فرضى بذلك‪ ،‬وكلم أعمامه‪ ،‬فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه‪ ،‬وعلى إثر ذلك تم‬
‫الزواج‪ ،‬وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر‪ ،‬وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين‪ ،‬وأصدقها عشرين‬
‫ً‬
‫وعقال‪ ،‬وهي أول‬ ‫بَ ْكرة‪ .‬وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة‪ ،‬وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة‬
‫امرأة تزوجها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت‪.‬‬
‫وكل أوالده صلى هللا عليه وسلم منها سوى إبراهيم‪،‬ولدت له‪ً :‬‬
‫أوال القاسم ـ وبه كان يكنى ـ ثم زينب‪،‬‬
‫ورقية‪ ،‬وأم كلثوم‪ ،‬وفاطمة‪ ،‬وعبد هللا ‪ .‬وكان عبد هللا يلقب بالطيب والطاهر‪ ،‬ومات بنوه كلهم في‬
‫صغرهم‪ ،‬أما البنات فكلهن أدركن اإلسالم فأسلمن وهاجرن‪،‬إال أنهن أدركتهن الوفاة في حياته صلى هللا‬
‫عليه وسلم سوى فاطمة رضي هللا عنها‪ ،‬فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به‪.‬‬
‫بناء الكعبة وقضية التحكيم‬
‫ولخمس وثالثين سنة من مولده صلى هللا عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛ وذلك ألن‬
‫ض ًما فوق القامة‪ ،‬ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السالم‪ ،‬ولم يكن‬ ‫الكعبة كانت َر ْ‬
‫لها سقف‪ ،‬فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها‪ ،‬وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ‬
‫أثرا قديما ـ للعوادى التي أدهت بنيانها‪ ،‬وصدعت جدرانها‪ ،‬وقبل بعثته صلى هللا‬ ‫باعتبارها ً‬
‫عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام‪ ،‬فأوشكت الكعبة منه‬
‫صا على مكانتها‪ ،‬واتفقوا على أال يدخلوا‬ ‫على االنهيار‪ ،‬فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حر ً‬
‫في بنائها إال طيبًا‪ ،‬فال يدخلون فيها مهر بغى وال بيع ربًا وال مظلمة أحد من الناس‪ ،‬وكانوا‬
‫يهابون هدمها‪ ،‬فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومى‪ ،‬فأخذ المعول وقال‪ :‬هللا م ال نريد إال‬
‫الخير‪ ،‬ثم هدم ناحية الركنين‪ ،‬ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني‪ ،‬ولم‬
‫يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم‪ ،‬ثم أرادوا األخذ في البناء فجزأوا الكعبة‪،‬‬
‫وخصصوا لكل قبيلة جز ًءا منها‪ .‬فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة‪ ،‬وأخذوا يبنونها‪ ،‬وتولى‬
‫البناء بناء رومي اسمه‪ :‬باقوم‪ .‬ولما بلغ البنيان موضع الحجر األسود اختلفوا فيمن يمتاز‬
‫سا‪ ،‬واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب‬ ‫بشرف وضعه في مكانه‪ ،‬واستمر النزاع أربع ليال أو خم ً‬
‫ضروس في أرض الحرم‪ ،‬إال أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما‬
‫شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه‪،‬‬
‫بناء الكعبة وقضية التحكيم‬
‫وشاء هللا أن يكون ذلك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فلما رأوه هتفوا‪ :‬هذا‬
‫األمين‪ ،‬رضيناه‪ ،‬هذا محمد‪ ،‬فلما انتهى إليهم‪ ،‬وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع‬
‫الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف‬
‫الرداء‪ ،‬وأمرهم أن يرفعوه‪ ،‬حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في‬
‫مكانه‪ ،‬وهذا حل حصيف رضى به القوم‪.‬‬
‫وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة‬
‫أذرع‪ ،‬وهي التي تسمى بالحجر والحطيم‪ ،‬ورفعوا بابها من األرض؛ لئال يدخلها‬
‫إال من أرادوا‪ ،‬ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا سقفوه على ستة أعمدة‪.‬‬
‫مترا‪،‬‬
‫وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبًا‪ ،‬يبلغ ارتفاعه ‪ً 15‬‬
‫وطول ضلعه الذي فيه الحجر األسود والمقابل له ‪ 10‬أمتار‪ ،‬والحجر موضوع‬
‫على ارتفاع ‪50.1‬متر من أرضية المطاف‪ .‬والضلع الذي فيه الباب والمقابل له‬
‫مترا‪ ،‬وبابها على ارتفاع مترين من األرض‪ ،‬ويحيط بها من الخارج قصبة‬ ‫‪ً 12‬‬
‫مترا‬
‫مترا ومتوسط عرضها ‪ً 30.0‬‬ ‫من البناء أسفلها‪ ،‬متوسط ارتفاعها ‪ً 25.0‬‬
‫وتسمى بالشاذروان‪ ،‬وهي من أصل البيت لكن قريشًا تركتها‪.‬‬
‫ً‬
‫طرازا رفيعًا من‬ ‫كان النبي صلى هللا عليه وسلم قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات‪ ،‬وكان‬
‫وافرا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫الفكر الصائب‪ ،‬والنظر السديد‪ ،‬ونال ح ً‬
‫ظا‬
‫يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الحق‪ ،‬وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية‬
‫صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات‪ ،‬فعاف ما سواها من خرافة‪ ،‬ونأي عنها‪ ،‬ثم عاشر الناس على‬
‫بصيرة من أمره وأمرهم‪ ،‬فما وجد حسنًا شارك فيه وإال عاد إلى عزلته العتيدة‪ ،‬فكان ال يشرب الخمر‪ ،‬وال يأكل‬
‫ً‬
‫احتفاال‪ ،‬بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات‬ ‫مما ذبح على النصب‪ ،‬وال يحضر لألوثان عيدًا وال‬
‫الباطلة‪ ،‬حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها‪ ،‬وحتى كان ال يصبر على سماع الحلف بالالت والعزى‪.‬‬
‫وال شك أن القدر حاطه بالحفظ‪ ،‬فعندما تتحرك نوازع النفس الستطالع بعض متع الدنيا‪ ،‬وعندما يرضى باتباع‬
‫بعض التقاليد غير المحمودة ـ تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪( :‬ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين‪ ،‬كل ذلك يحول هللا بيني وبينه‪ ،‬ثم ما هممت‬
‫به حتى أكرمنى برسالته‪ ،‬قلت ليلة للغالم الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة‪ :‬لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة‬
‫وأسمر بها كما يسمر الشباب‪ ،‬فقال‪ :‬أفعل‪ ،‬فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفًا‪ ،‬فقلت‪ :‬ما هذا؟‬
‫فقالوا‪ :‬عرس فالن بفالنة‪ ،‬فجلست أسمع‪ ،‬فضرب هللا على أذنـى فنمت‪ ،‬فما أيقظني إال حر الشمس‪ .‬فعدت إلى‬
‫صاحبي فسألني‪ ،‬فأخبرته‪ ،‬ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك‪ ،‬ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة‪ ...‬ثم ما هممت‬
‫بسوء)‪.‬‬
‫وروى البخاري عن جابر بن عبد هللا قال‪ :‬لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى هللا عليه وسلم وعباس ينقالن الحجارة‪،‬‬
‫فقال عباس للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجارة‪ ،‬فخر إلى األرض وطمحت عيناه إلى‬
‫السماء ثم أفاق‪ ،‬فقال‪( :‬إزاري‪ ،‬إزاري) فشد عليه إزاره‪ .‬وفي رواية‪ :‬فما رؤيت له عورة بعد ذلك‪.‬‬
‫وكان النبي صلى هللا عليه وسلم يمتاز في قومه بخالل عذبة وأخالق فاضلة‪ ،‬وشمائل كريمة‪ ،‬فكان أفضل قومه مروءة‪،‬‬
‫يرا‪ ،‬وأبرهم‬ ‫جوارا‪ ،‬وأعظمهم حل ًما‪ ،‬وأصدقهم حديثًا‪ ،‬وألينهم ع َِريكة‪ ،‬وأعفهم نف ً‬
‫سا وأكرمهم خ ً‬ ‫ً‬ ‫وأحسنهم خلقًا‪ ،‬وأعزهم‬
‫عمال‪ ،‬وأوفاهم عهدًا‪ ،‬وآمنهم أمانة حتى سماه قومه‪[ :‬األمين] لما جمع فيه من األحوال الصالحة والخصال المرضية‪،‬‬ ‫ً‬
‫وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي هللا عنها يحمل الكل‪ ،‬ويكسب المعدوم‪ ،‬ويقرى الضيف‪ ،‬ويعين على نوائب‬
‫الحق‪.‬‬
‫النبــوة والدعــوة ‪ -‬العهـد المكـي‬
‫تنقسم حياة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بعد أن شرفه هللا بالنبوة‬
‫والرسالة إلى عهدين يمتاز أحدهما عن اآلخـر تمـام االمتياز‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ العهد المكي‪ ،‬ثالث عشرة سنة تقريبًا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ العهد المدني‪ ،‬عشر سنوات كاملة‪.‬‬
‫ثم يشتمل كل من العهدين على عدة مراحل‪ ،‬لكل مرحلة منها خصائص‬
‫تمتاز بها عن غيرها‪ ،‬يظهر ذلك جليًا بعد النظر الدقيق في الظروف التي‬
‫مرت بها الدعوة خالل العهدين‪.‬‬
‫ويمكن تقسيم العهد المكي إلى ثالث مراحل‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ مرحلة الدعوة السرية‪ ،‬ثالث سنوات‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ مرحلة إعالن الدعوة في أهل مكة‪ ،‬من بداية السنة الرابعة من النبوة‬
‫إلى هجرته صلى هللا عليه وسلم إلى المدينة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ مرحلة الدعوة خارج مكة وفشوها فيهم‪ ،‬من أواخر السنة العاشرة‬
‫من النبوة‪ .‬وقد شملت العهد المدني وامتدت إلى آخر حياته صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫أما مراحل العهد المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه‪.‬‬
‫في ظالل النبوة والرسالة‬

‫في غار حراء‬


‫لما تقاربت سنه صلى هللا عليه وسلم األربعين‪ ،‬وكانت تأمالته‬
‫الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه‪ ،‬حبب إليه‬
‫س ِويق والماء‪ ،‬ويذهب إلى غار حراء في‬ ‫الخالء‪ ،‬فكان يأخذ ال َّ‬
‫جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة ـ وهو غار لطيف‬
‫طوله أربعة أذرع‪ ،‬وعرضه ذراع وثالثة أرباع ذراع من ذراع‬
‫الحديد ـ فيقيم فيه شهر رمضان‪ ،‬ويقضي وقته في العبادة‬
‫والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدرة‬
‫مبدعة‪ ،‬وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك‬
‫المهلهلة وتصوراتها الواهية‪ ،‬ولكن ليس بين يديه طريق‬
‫واضح‪ ،‬وال منهج محدد‪ ،‬وال طريق قاصد يطمئن إليه‬
‫ويرضاه‪.‬‬
‫جبريل ينزل بالوحي‬

‫عائشة الصديقة رضي هللا عنها تروى لنا قصة هذه الوقعة التي كانت نقطة بداية النبوة‪ ،‬وأخذت تفتح دياجير‬
‫ظلمات الكفر والضالل حتى غيرت مجرى الحياة‪ ،‬وعدلت خط التاريخ‪ ،‬قالت عائشة رضي هللا عنها‪.‬‬
‫أول ما بديء به رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم‪ ،‬فكان ال يرى رؤيا إال جاءت‬
‫ب إليه الخالء‪ ،‬وكان يخلو بغار حراء‪ ،‬فيَت َ َحنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن‬ ‫مثل فَلَق الصبح‪ ،‬ثم ُح ِبّ َ‬
‫ينزع إلى أهله‪ ،‬ويتزود لذلك‪ ،‬ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها‪ ،‬حتى جاءه الحق وهو في غار حراء‪ ،‬فجاءه‬
‫الملك فقال‪ :‬اقرأ‪ :‬قال‪( :‬ما أنا بقارئ)‪ ،‬قال‪( :‬فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد‪ ،‬ثم أرسلنى‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ‪ ،‬قلت‪ :‬مـا‬
‫أنـا بقـارئ‪ ،‬قـال‪ :‬فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلـغ منـى الجهد‪ ،‬ثم أرسلني فقال‪ :‬اقرأ‪ ،‬فقلت‪ :‬ما أنا بقارئ‪ ،‬فأخذني‬
‫ق ْاق َرأْ َو َربُّكَ ْاأل َ ْك َر ُم}[العلق‪:1:‬‬
‫علَ ٍ‬
‫ان ِم ْن َ‬
‫س َ‬ ‫فغطني الثالثة‪ ،‬ثـم أرسلـني فـقـال‪ْ { :‬اق َرأْ ِبا ْ‬
‫س ِم َر ِبّكَ الَّذِي َخلَقَ َخلَقَ ْ ِ‬
‫اإلن َ‬
‫‪ ،)]3‬فرجع بها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يرجف فؤاده‪ ،‬فدخل على خديجة بنت خويلد فقال‪َ ( :‬ز ِ ّملُونى‬
‫زملونى)‪ ،‬فزملوه حتى ذهب عنه الروع‪ ،‬فقال لخديجة‪( :‬ما لي؟) فأخبرها الخبر‪( ،‬لقد خشيت على نفسي)‪ ،‬فقالت‬
‫خديجة‪ :‬كال‪ ،‬وهللا ما يخزيك هللا أبدًا‪ ،‬إنك لتصل الرحم‪ ،‬وتحمل الكل‪ ،‬وتكسب المعدوم‪ ،‬وتقرى الضيف‪ ،‬وتعين‬
‫على نوائب الحق‪ ،‬فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة‬
‫جبريل ينزل بالوحي‬
‫ـ وكان امرأ تنصر في الجاهلية‪ ،‬وكان يكتب الكتاب العبرانى‪ ،‬فيكتب من اإلنجيل بالعبرانية ما شاء هللا أن‬
‫كبيرا قد عمي ـ فقالت له خديجة‪ :‬يابن عم‪ ،‬اسمع من ابن أخيك‪ ،‬فقال له ورقة‪ :‬يابن أخي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يكتب‪ ،‬وكان شي ًخا‬
‫ماذا ترى؟ فأخبره رسول هللا صلى هللا عليه وسلم خبر ما رأي‪ ،‬فقال له ورقة‪ :‬هذا الناموس الذي نزله هللا‬
‫على موسى‪ ،‬يا ليتني فيها َج َذعا‪ ،‬ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أو‬
‫مؤزرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ِى‪ ،‬وإن يدركنى يومك أنصرك نص ًرا‬ ‫ي هم؟) قال‪:‬نعم‪ ،‬لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إال عُود َ‬ ‫مخرج ّ‬
‫َب ورقة أن توفي‪ ،‬وفَتَر الوحى‪.‬‬‫ثم لم يَ ْنش ْ‬
‫جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية‬
‫قال ابن حجر‪ :‬وكان ذلك [أي انقطاع الوحي أيا ًما]؛ ليذهب ما كان صلى هللا عليه وسلم وجده من الروع‪،‬‬
‫وليحصل له التشوف إلى العود‪ ،‬فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجىء الوحى أكرمه هللا بالوحي مرة ثانية‪.‬‬
‫قال‪ :‬صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫شهرا فلما قضيت جوارى هبطت [فلما استبطنت الوادي] فنوديت‪ ،‬فنظرت عن يميني فلم أر‬ ‫ً‬ ‫(جاورت بحراء‬
‫شيئ ًا‪ ،‬ونظرت عن شمالي فلم أر شيئ ًا‪ ،‬ونظرت أمامي فلم أر شيئا‪ ،‬ونظرت خلفي فلم أرشيئ ًا‪ ،‬فرفعت رأسى‬
‫فرأيت شيئ ًا‪[ ،‬فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء واألرض‪ ،‬فَ ُجئِثْتُ منه رعبًا حتى‬
‫هويت إلى األرض] فأتيت خديجة فقلت‪[ :‬زملوني‪ ،‬زملوني]‪ ،‬دثرونى‪ ،‬وصبوا على ماء باردًا)‪ ،‬قال‪( :‬فدثرونى‬
‫وصبوا على ماء باردًا‪ ،‬فنزلت‪{ :‬يَا أَيُّ َها ا ْل ُم َّد ِث ّ ُر قُ ْم فَأَنذ ِْر َو َربَّكَ فَ َك ِبّ ْر َوثِيَابَكَ فَ َط ِ ّه ْر َو ُّ‬
‫الرجْ َز فَا ْه ُج ْر} [المدثر‪:1 :‬‬
‫أقسام الوحى‬
‫بيان أقسام الوحى ومراتبه‪ .‬قال ابن القيم‪ ،‬وهو يذكر تلك المراتب‪:‬‬
‫إحداها‪ :‬الرؤيا الصادقة‪ ،‬وكانت مبدأ وحيه صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه‪ ،‬كما قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬إن روح‬
‫القدس نفث في روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها‪ ،‬فاتقوا هللا وأجملوا في الطلب‪ ،‬وال يحملنكم‬
‫استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية هللا ‪ ،‬فإن ما عند هللا ال ينال إال بطاعته)‪.‬‬
‫رجال فيخاطبه حتى يَ ِع َى عنه ما يقول له‪ ،‬وفي هذه‬‫ً‬ ‫الثالثة‪ :‬إنه صلى هللا عليه وسلم كان يتمثل له الملك‬
‫المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس‪ ،‬وكان أشده عليه‪ ،‬فيلتبس به الملك‪ ،‬حتى أن جبينه ليتَفَ َّ‬
‫صد‬
‫عرقًا في اليوم الشديد البرد‪ ،‬وحتى أن راحلته لتبرك به إلى األرض إذا كان راكبها‪ ،‬ولقد جاء الوحى مرة‬
‫كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت‪ ،‬فثقلت عليه حتى كادت ترضها‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬إنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها‪ ،‬فيوحى إليه ما شاء هللا أن يوحيه‪ ،‬وهذا وقع له مرتين‬
‫كما ذكر هللا ذلك في سورة النجم‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬ما أوحاه هللا إليه‪ ،‬وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصالة وغيرها‪.‬‬
‫السابعة‪ :‬كالم هللا له منه إليه بال واسطة ملك كما كلم هللا موسى بن عمران‪ ،‬وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى‬
‫قطعًا بنص القرآن‪ .‬وثبوتها لنبينا صلى هللا عليه وسلم هو في حديث اإلسراء‪.‬‬
‫وقـد زاد بعضهم مرتبة ثامنة؛ وهي تكليم هللا له كفا ًحا من غير حجاب‪ ،‬وهي مسألة خالف بين السلف‬
‫والخلف‪.‬‬
‫المرحلة األولى‪ :‬من جهاد الدعوة إلي هللا‬

‫ثالث سنوات من الدعوة السرية‬


‫قام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بعد نزول ما تقدم من آيات سورة المدثر‪ ،‬بالدعوة إلى هللا سبحانه‬
‫وتعالى؛ وحيث إن قومه كانوا جفاة ال دين لهم إال عبادة األصنام واألوثان‪ ،‬وال حجة لهم إال أنهم ألفوا‬
‫آباءهم على ذلك‪ ،‬وال أخالق لهم إال األخذ بالعزة واألنفة‪ ،‬وال سبيل لهم في حل المشاكل إال السيف‪،‬‬
‫وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية في جزيرة العرب‪ ،‬ومحتلين مركزها الرئيس‪ ،‬ضامنين حفظ‬
‫كيانها‪ ،‬فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية؛ لئال يفاجئ أهل مكة بما‬
‫يهيجهم‪.‬‬
‫الرعيل األول‬

‫وكان من الطبيعى أن يعرض الرسول صلى هللا عليه وسلم اإلسالم ً‬


‫أوال على ألصق الناس به من أهل بيته‪،‬‬
‫وأصدقائه‪ ،‬فدعاهم إلى اإلسالم‪ ،‬ودعا إليه كل من توسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه‪ ،‬يعرفهم بحب الحق‬
‫والخير‪ ،‬ويعرفونه بتحرى الصدق والصالح‪ ،‬فأجابه من هؤالء ـ الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم وجاللة نفسه وصدق خبره ـ َج ْم ٌع ع ُِرفوا في التاريخ اإلسالمى بالسابقين األولين‪ ،‬وفي‬
‫مقدمتهم زوجة النبي صلى هللا عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد‪ ،‬ومواله زيد بن حارثة بن‬
‫شراحيل الكلبي وابن عمه علي بن أبي طالب ـ وكان صبيًا يعيش في كفالة الرسول صلى هللا عليه وسلم ـ‬
‫وصديقه الحميم أبو بكر الصديق‪ .‬أسلم هؤالء في أول يوم الدعوة‪.‬‬
‫سهال ذا خلق ومعروف‪،‬وكان رجال قومه يأتونه‬ ‫ً‬ ‫رجال مألفًا محببًا‬
‫ً‬ ‫ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى اإلسالم‪ ،‬وكان‬
‫ويألفونه؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته‪ ،‬فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه‪ ،‬فأسلم‬
‫بدعوته عثمان بن عفان األموى‪ ،‬والزبير بن العوام األسدى‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وسعد بن أبي‬
‫وقاص الزهريان‪ ،‬وطلحة بن عبيد هللا التيمي‪ .‬فكان هؤالء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس هم الرعيل األول‬
‫وطليعة اإلسالم‪.‬‬
‫الرعيل األول‬

‫ثم تال هؤالء أمين هذه األمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر‪ ،‬وأبو سلمة بن عبد األسد‬
‫ى وأخواه قدامة‬ ‫المخزومى‪ ،‬وامرأته أم سلمة‪ ،‬واألرقم بن أبي األرقم المخزومى‪ ،‬وعثمان بن مظعون ال ُج َم ِح ّ‬
‫وعبد هللا ‪ ،‬وعبيدة بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف‪ ،‬وسعيد بن زيد العدوى‪ ،‬وامرأته فاطمة بنت الخطاب‬
‫ع َميْس‪،‬‬
‫العدوية أخت عمر بن الخطاب‪ ،‬وخباب بن األرت التميمى‪ ،‬وجعفر بن أبي طالب‪ ،‬وامرأته أسماء بنت ُ‬
‫وخالد بن سعيد بن العاص األموى‪ ،‬وامرأته أمينة بنت خلف‪ ،‬ثم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص‪ ،‬وحاطب بن‬
‫الحارث الجمحي‪ ،‬وامرأته فاطمة بنت ال ُم َج ِلّل وأخوه الخطاب بن الحارث‪ ،‬وامرأته فُ َك ْي َهة بنت يسار‪ ،‬وأخوه‬
‫معمر ابن الحارث‪ ،‬والمطلب بن أزهر الزهري‪ ،‬وامرأته رملة بنت أبي عوف‪ ،‬ونعيم بن عبد هللا بن النحام‬
‫العدوي‪ ،‬وهؤالء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش‪.‬‬
‫ومن السابقين األولين إلى اإلسالم من غير قريش‪ :‬عبد هللا بن مسعود الهذلي‪ ،‬ومسعود بن ربيعة القاري‪،‬‬
‫سنان الرومي‪،‬‬ ‫ص َهيْب بن ِ‬ ‫وعبد هللا بن جحش األسدي وأخوه أبو أحمد بن جحش‪ ،‬وبالل بن رباح الحبشي‪ُ ،‬‬
‫وعمار بن ياسر العنسي‪ ،‬وأبوه ياسر‪ ،‬وأمه سمية‪ ،‬وعامر بن فُهيرة‪.‬‬
‫وممن سبق إلى اإلسالم من النساء غير من تقدم ذكرهن‪ :‬أم أيمن بركة الحبشية‪ ،‬وأم الفضل لبابة الكبرى بنت‬
‫الحارث الهاللية زوج العباس بن عبد المطلب‪ ،‬وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫هؤالء معروفون بالسابقين األولين‪ ،‬ويظهر بعد التتبع واالستقراء أن عدد الموصوفين بالسبق إلى اإلسالم‬
‫رجال وامرأة‪ ،‬ولكن ال يعرف بالضبط أنهم كلهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة أو تأخر‬ ‫ً‬ ‫وصل إلى مائة وثالثين‬
‫إسالم بعضهم إلى الجهر بها‪.‬‬
‫الجزء الثاني – الدعوة الجهرية‬

You might also like