Professional Documents
Culture Documents
دخول
• تعريف السيرة وأهميتها
• حياته صلى هللا عليه وسلم من مولده إلى بعثته
• المرحلة المكية
• المرحلة المدنية
• فترة الهدنة مع المشركين (6هـ 8 -هـ)
• فتح مكـة
• فترة دخول الناس في دين هللا أفواجا (8هـ 11 -هـ)
• وفاة الرسول صلى هللا عليه وسلم
• شمائله صلى هللا عليه وسلم
الجزء االول
أو ًلا
:
• -السيرة لغة :
سنة والطريقة ،والحالة التي يكون
تعني ال ّ •
عليها اإلنسان وغيره .يُقال فالن له سيرة
حسنة ،وقال تعالى( :سنعيدها سيرتها
األولى) (طه.)21:
-السيرة اصطال احا: •
السيرة اصطال ًحا تعني قصة الحياة وتاريخها، •
وكتبها تس ّمى :كتب السير ،يُقال قرأت سيرة
فالن :أي تاريخ حياته .والسيرة النبوية تعني
مجموع ما ورد لنا من وقائع حياة النبي صلى
هللا عليه وسلم وصفاته ال ُخلقية وال َخلقية ،مضافا
إليها غزواته وسراياه صلى هللا عليه وسلم.
أهمية السيرة ومكانتها:
-1السيرة النبوية هي السبيل إلى فهم شخصية الرسول صلى هللا عليه وسلم ،من خالل
حياته وظروفه التي عاش فيها ،للتأكد من أنه صلى هللا عليه وسلم لم يكن مجرد عبقري
سمت به عبقريته ،ولكنه قبل ذلك رسول أيده هللا بوحي من عنده.
-2تجعل السيرة النبوية بين يدي اإلنسان صورة للمثل األعلى في كل شأن من شؤون الحياة
الفاضلة ،يتمسك به ويحذو حذوه ،فقد جعل هللا تعالى الرسول محمدًا صلى هللا عليه وسلم
قدوة لإلنسانية كلها ،حيث قال سبحانه( :لقد كان لكم في رسول هللا أسوة حسنة لمن كان
يرجو هللا واليوم اآلخر) (األحزاب.)21:
-3السيرة النبوية تعين على فهم كتاب هللا وتذوق روحه ومقاصده ،فكثير من آيات القرآن
الكريم إنما تفسرها وتجليها األحداث التي مرت برسول هللا صلى هللا عليه وسلم.
تكون لدى -4السيرة النبوية صورة مجسدة نيرة لمجموع مبادئ اإلسالم وأحكامه ،فهي ّ
دارسها أكبر قدر من الثقافة والمعارف اإلسالمية ،سواء ما كان منها متعلقًا بالعقيدة أو
األحكام أو األخالق.
سبُه صلى هللا عليه وسلم:
َن َ
ولـد سيـد المرسلـين صلى هللا عليه وسلم بشـعب بني هاشـم بمكـة في صبيحـة يــوم االثنين مـن شـهر ربيـع األول،
ولكن اليوم لم يثيت تحديدا في االحاديث الصحيحة و العـام هو عام الفيـل ،وألربعـين سنة خلت من ملك كسرى
أنو شروان ،ويوافق ذلك سنة 571م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان ـ المنصور فورى ـ رحمه هللا .
وروى ابــن سعــد أن أم رســول هللا صلى هللا عليه وسلم قالــت :لمــا ولـدتــه خــرج مــن فرجـى نــور أضــاءت
لـه قصـور الشام .وروى أحمد والدارمى وغيرهمـا قريبـًا مـن ذلك.
وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميالد ،فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى ،وخمدت النار التي
يعبدها المجوس ،وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت ،روى ذلك الطبرى والبيهقى وغيرهما .وليس
له إسناد ثابت ،ولم يشهد له تاريخ تلك األمم مع قوة دواعى التسجيل.
مستبشرا ودخل به الكعبة ،ودعا هللا وشكر له. ً ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده،فجاء
واختار له اسم محمد ـ وهذا االسم لم يكن معروفًا في العرب ـ و َختَنَه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون.
وأول من أرضعته من المراضع ـ وذلك بعد أمه صلى هللا عليه وسلم بأسبوع ـ ث ُ َو ْيبَة موالة أبي لهب بلبن ابن لها
س ُروح ،وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب ،وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد األسد المخزومي. يقال لهَ :م ْ
وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع ألوالدهم ابتعادًا لهم عن أمراض الحواضر؛
ولتقوى أجسامهم ،وتشتد أعصابهم ،ويتقنوا اللسان العربى في مهدهم ،فالتمس عبد المطلب لرسول هللا صلى
هللا عليه وسلم المراضع ،واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر ،وهي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد هللا بن
الحارث ،وزوجها الحارث ابن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة.
وإخوته صلى هللا عليه وسلم هناك من الرضاعة :عبد هللا بن الحارث ،وأنيسة بنت الحارث ،وحذافة أو جذامة
بنت الحارث [وهي الشيماء؛ لقب غلب على اسمها] وكانت تحضن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وأبو
سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وكان عمه حمزة بن عبد المطلب
مسترضعًا في بني سعد بن بكر ،فأرضعت أمه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يو ًما وهو عند أمه حليمة،فكان
حمزة رضيع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من جهتين ،من جهة ثويبة ومن جهة السعدية.
ورأت حليمة من بركته صلى هللا عليه وسلم ما قضت منه العجب
شق الصدر
وهكذا رجع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى بني سعد ،حتى إذا كان بعده بأشهر على قول ابن إسحاق،
وفي السنة الرابعة من مولده على قول المحققين وقع حادث شق صدره ،روى مسلم عن أنس :أن رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم أتاه جبريل ،وهو يلعب مع الغلمان ،فأخذه فصرعه ،فشق عن قلبه ،فاستخرج
ست من ذهب بماء زمزم ،ثم القلب ،فاستخرج منه علقة ،فقال :هذا حظ الشيطان منك ،ثم غسله في َط ْ
أل َ َمه ـ أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ـ ثم أعاده في مكانه ،وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعنى ظئره ـ
فقالوا :إن محمدًا قد قتل ،فاستقبلوه وهو ُم ْنت َ ِق ُع اللون ـ أي متغير اللون ـ قال أنس :وقد كنت أرى أثر ذلك
المخيط في صدره.
إلى أمه الحنون
وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه ،فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين.
ورأت آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبره بيثرب ،فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ نحو
خمسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتيم ـ محمد صلى هللا عليه وسلم ـ وخادمتها أم أيمن ،وقيمها عبد المطلب،
شهرا ثم قفلت ،وبينما هي راجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق ،ثم اشتد حتى ماتت باألب َْواء بين
ً فمكثت
مكة والمدينة.
إلى جده العطوف
وعاد به عبد المطلب إلى مكة ،وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي أصيب بمصاب
ق عليه رقة لم يرقها على أحد من أوالده ،فكان ال يدعه لوحدته المفروضة ،بل جديد نَكَأ الجروح القديمة ،فَ َر َّ
يؤثره على أوالده ،قال ابن هشام :كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة ،فكان بنوه يجلسون حول
ً
إجالال له ،فكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يأتى فراشه ذلك حتى يخرج إليه ،ال يجلس عليه أحد من بنيه
وهو غالم جفر حتى يجلس عليه ،فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ،فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم :دعوا
ابني هذا ،فوهللا إن له لشأنًا ،ثم يجلس معه على فراشه ،ويمسح ظهره بيده ،ويسره ما يراه يصنع.
ولثمانى سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى هللا عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة ،ورأي
قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه.
إلى عمه الشفيق
ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه ،وضمه إلى ولده وقدمه عليهم واختصه بفضل احترام
وتقدير ،وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه ،ويبسط عليه حمايته ،ويصادق ويخاصم من أجله ،وستأتي نبذ
من ذلك في مواضعها.
ولما بلغ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم اثنتى عشرة سنة ـ قيل :وشهرين وعشرة أيام ـ ارتحل به أبو طالب
وران ،وكانت في ذلك الوقت قصبة تاجرا إلى الشام ،حتى وصل إلى بُص َْرى ـ وهي معدودة من الشام ،وقَ َ
ص َبة ل ُح َ ً
يرى ،واسمه ـ فيما يقال:بح َ
للبالد العربية التي كانت تحت حكم الرومان .وكان في هذا البلد راهب عرف بَ ِ
جرجس ،فلما نزل الركب خرج إليهم ،وكان ال يخرج إليهم قبل ذلك ،فجعل يتخلّلهم حتى جاء فأخذ بيد رسول هللا
صلى هللا عليه وسلم ،وقال :هذا سيد العالمين ،هذا رسول رب العالمين ،هذا يبعثه هللا رحمة للعالمين .فقال
له [أبو طالب و] أشياخ قريش[ :و] ما علمك [بذلك]؟ فقال :إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر وال شجر
إال خر ساجدًا ،وال يسجدان إال لنبى ،وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة[ ،وإنا نجده
في كتبنا] ،ثم أكرمهم بالضيافة ،وسأل أبا طالب أن يرده ،وال يقدم به إلى الشام؛ خوفًا عليه من الروم واليهود،
فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة.
حياة الكدح
ولم يكن له صلى هللا عليه وسلم عمل معين في أول شبابه ،إال أن الروايات توالت أنه كان يرعى
غن ًما ،رعاها في بني سعد ،وفي مكة ألهلها على قراريط ،ويبدو أنه انتقل إلى عمل التجارة حين
شب،فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب المخزومي فكان خير شريك له ،ال يدارى
وال يمارى ،وجاءه يوم الفتح فرحب به ،وقال :مرحبًا بأخي وشريكي.
تاجرا إلى الشام في مال خديجة رضي هللا عنها قال ابن
ً وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج
إسحاق :كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ،تستأجر الرجال في مالها،
تجارا ،فلما بلغها عن رسول هللا صلى هللا
ً وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم ،وكانت قريش قو ًما
عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه ،وعظم أمانته وكرم أخالقه بعثت إليه ،فعرضت عليه أن
تاجرا ،وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار ،مع غالم لهاً يخرج في مال لها إلى الشام
يقال له :ميسرة ،فقبله رسول هللا صلى هللا عليه وسلم منها ،وخرج في مالها ذلك ،وخرج معه
غالمها ميسرة حتى قدم الشام.
زواجه بخديجة
ولما رجع إلى مكة ،ورأت خديجة في مالها من األمانة والبركة ما لم تر قبل هذا ،وأخبرها غالمها ميسرة
بما رأي فيه صلى هللا عليه وسلم من خالل عذبة ،وشمائل كريمة ،وفكر راجح ،ومنطق صادق ،ونهج
أمين ،وجدت ضالتها المنشودة ـ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبي عليهم ذلك ـ
فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه ،وهذه ذهبت إليه صلى هللا عليه وسلم تفاتحه أن
يتزوج خديجة ،فرضى بذلك ،وكلم أعمامه ،فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه ،وعلى إثر ذلك تم
الزواج ،وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر ،وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين ،وأصدقها عشرين
ً
وعقال ،وهي أول بَ ْكرة .وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة ،وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة
امرأة تزوجها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
وكل أوالده صلى هللا عليه وسلم منها سوى إبراهيم،ولدت لهً :
أوال القاسم ـ وبه كان يكنى ـ ثم زينب،
ورقية ،وأم كلثوم ،وفاطمة ،وعبد هللا .وكان عبد هللا يلقب بالطيب والطاهر ،ومات بنوه كلهم في
صغرهم ،أما البنات فكلهن أدركن اإلسالم فأسلمن وهاجرن،إال أنهن أدركتهن الوفاة في حياته صلى هللا
عليه وسلم سوى فاطمة رضي هللا عنها ،فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به.
بناء الكعبة وقضية التحكيم
ولخمس وثالثين سنة من مولده صلى هللا عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛ وذلك ألن
ض ًما فوق القامة ،ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السالم ،ولم يكن الكعبة كانت َر ْ
لها سقف ،فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها ،وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ
أثرا قديما ـ للعوادى التي أدهت بنيانها ،وصدعت جدرانها ،وقبل بعثته صلى هللا باعتبارها ً
عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام ،فأوشكت الكعبة منه
صا على مكانتها ،واتفقوا على أال يدخلوا على االنهيار ،فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حر ً
في بنائها إال طيبًا ،فال يدخلون فيها مهر بغى وال بيع ربًا وال مظلمة أحد من الناس ،وكانوا
يهابون هدمها ،فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومى ،فأخذ المعول وقال :هللا م ال نريد إال
الخير ،ثم هدم ناحية الركنين ،ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني ،ولم
يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم ،ثم أرادوا األخذ في البناء فجزأوا الكعبة،
وخصصوا لكل قبيلة جز ًءا منها .فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة ،وأخذوا يبنونها ،وتولى
البناء بناء رومي اسمه :باقوم .ولما بلغ البنيان موضع الحجر األسود اختلفوا فيمن يمتاز
سا ،واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب بشرف وضعه في مكانه ،واستمر النزاع أربع ليال أو خم ً
ضروس في أرض الحرم ،إال أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما
شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه،
بناء الكعبة وقضية التحكيم
وشاء هللا أن يكون ذلك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فلما رأوه هتفوا :هذا
األمين ،رضيناه ،هذا محمد ،فلما انتهى إليهم ،وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع
الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف
الرداء ،وأمرهم أن يرفعوه ،حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في
مكانه ،وهذا حل حصيف رضى به القوم.
وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة
أذرع ،وهي التي تسمى بالحجر والحطيم ،ورفعوا بابها من األرض؛ لئال يدخلها
إال من أرادوا ،ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا سقفوه على ستة أعمدة.
مترا،
وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبًا ،يبلغ ارتفاعه ً 15
وطول ضلعه الذي فيه الحجر األسود والمقابل له 10أمتار ،والحجر موضوع
على ارتفاع 50.1متر من أرضية المطاف .والضلع الذي فيه الباب والمقابل له
مترا ،وبابها على ارتفاع مترين من األرض ،ويحيط بها من الخارج قصبة ً 12
مترا
مترا ومتوسط عرضها ً 30.0 من البناء أسفلها ،متوسط ارتفاعها ً 25.0
وتسمى بالشاذروان ،وهي من أصل البيت لكن قريشًا تركتها.
ً
طرازا رفيعًا من كان النبي صلى هللا عليه وسلم قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات ،وكان
وافرا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف ،وكان ً الفكر الصائب ،والنظر السديد ،ونال ح ً
ظا
يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الحق ،وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية
صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات ،فعاف ما سواها من خرافة ،ونأي عنها ،ثم عاشر الناس على
بصيرة من أمره وأمرهم ،فما وجد حسنًا شارك فيه وإال عاد إلى عزلته العتيدة ،فكان ال يشرب الخمر ،وال يأكل
ً
احتفاال ،بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات مما ذبح على النصب ،وال يحضر لألوثان عيدًا وال
الباطلة ،حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها ،وحتى كان ال يصبر على سماع الحلف بالالت والعزى.
وال شك أن القدر حاطه بالحفظ ،فعندما تتحرك نوازع النفس الستطالع بعض متع الدنيا ،وعندما يرضى باتباع
بعض التقاليد غير المحمودة ـ تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها ،قال رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم( :ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين ،كل ذلك يحول هللا بيني وبينه ،ثم ما هممت
به حتى أكرمنى برسالته ،قلت ليلة للغالم الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة :لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة
وأسمر بها كما يسمر الشباب ،فقال :أفعل ،فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفًا ،فقلت :ما هذا؟
فقالوا :عرس فالن بفالنة ،فجلست أسمع ،فضرب هللا على أذنـى فنمت ،فما أيقظني إال حر الشمس .فعدت إلى
صاحبي فسألني ،فأخبرته ،ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك ،ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة ...ثم ما هممت
بسوء).
وروى البخاري عن جابر بن عبد هللا قال :لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى هللا عليه وسلم وعباس ينقالن الحجارة،
فقال عباس للنبي صلى هللا عليه وسلم :اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجارة ،فخر إلى األرض وطمحت عيناه إلى
السماء ثم أفاق ،فقال( :إزاري ،إزاري) فشد عليه إزاره .وفي رواية :فما رؤيت له عورة بعد ذلك.
وكان النبي صلى هللا عليه وسلم يمتاز في قومه بخالل عذبة وأخالق فاضلة ،وشمائل كريمة ،فكان أفضل قومه مروءة،
يرا ،وأبرهم جوارا ،وأعظمهم حل ًما ،وأصدقهم حديثًا ،وألينهم ع َِريكة ،وأعفهم نف ً
سا وأكرمهم خ ً ً وأحسنهم خلقًا ،وأعزهم
عمال ،وأوفاهم عهدًا ،وآمنهم أمانة حتى سماه قومه[ :األمين] لما جمع فيه من األحوال الصالحة والخصال المرضية، ً
وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي هللا عنها يحمل الكل ،ويكسب المعدوم ،ويقرى الضيف ،ويعين على نوائب
الحق.
النبــوة والدعــوة -العهـد المكـي
تنقسم حياة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بعد أن شرفه هللا بالنبوة
والرسالة إلى عهدين يمتاز أحدهما عن اآلخـر تمـام االمتياز ،وهما:
1ـ العهد المكي ،ثالث عشرة سنة تقريبًا.
2ـ العهد المدني ،عشر سنوات كاملة.
ثم يشتمل كل من العهدين على عدة مراحل ،لكل مرحلة منها خصائص
تمتاز بها عن غيرها ،يظهر ذلك جليًا بعد النظر الدقيق في الظروف التي
مرت بها الدعوة خالل العهدين.
ويمكن تقسيم العهد المكي إلى ثالث مراحل:
1ـ مرحلة الدعوة السرية ،ثالث سنوات.
2ـ مرحلة إعالن الدعوة في أهل مكة ،من بداية السنة الرابعة من النبوة
إلى هجرته صلى هللا عليه وسلم إلى المدينة.
3ـ مرحلة الدعوة خارج مكة وفشوها فيهم ،من أواخر السنة العاشرة
من النبوة .وقد شملت العهد المدني وامتدت إلى آخر حياته صلى هللا
عليه وسلم.
أما مراحل العهد المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه.
في ظالل النبوة والرسالة
عائشة الصديقة رضي هللا عنها تروى لنا قصة هذه الوقعة التي كانت نقطة بداية النبوة ،وأخذت تفتح دياجير
ظلمات الكفر والضالل حتى غيرت مجرى الحياة ،وعدلت خط التاريخ ،قالت عائشة رضي هللا عنها.
أول ما بديء به رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ،فكان ال يرى رؤيا إال جاءت
ب إليه الخالء ،وكان يخلو بغار حراء ،فيَت َ َحنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن مثل فَلَق الصبح ،ثم ُح ِبّ َ
ينزع إلى أهله ،ويتزود لذلك ،ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ،حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ،فجاءه
الملك فقال :اقرأ :قال( :ما أنا بقارئ) ،قال( :فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ،ثم أرسلنى ،فقال :اقرأ ،قلت :مـا
أنـا بقـارئ ،قـال :فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلـغ منـى الجهد ،ثم أرسلني فقال :اقرأ ،فقلت :ما أنا بقارئ ،فأخذني
ق ْاق َرأْ َو َربُّكَ ْاأل َ ْك َر ُم}[العلق:1:
علَ ٍ
ان ِم ْن َ
س َ فغطني الثالثة ،ثـم أرسلـني فـقـالْ { :اق َرأْ ِبا ْ
س ِم َر ِبّكَ الَّذِي َخلَقَ َخلَقَ ْ ِ
اإلن َ
،)]3فرجع بها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يرجف فؤاده ،فدخل على خديجة بنت خويلد فقالَ ( :ز ِ ّملُونى
زملونى) ،فزملوه حتى ذهب عنه الروع ،فقال لخديجة( :ما لي؟) فأخبرها الخبر( ،لقد خشيت على نفسي) ،فقالت
خديجة :كال ،وهللا ما يخزيك هللا أبدًا ،إنك لتصل الرحم ،وتحمل الكل ،وتكسب المعدوم ،وتقرى الضيف ،وتعين
على نوائب الحق ،فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة
جبريل ينزل بالوحي
ـ وكان امرأ تنصر في الجاهلية ،وكان يكتب الكتاب العبرانى ،فيكتب من اإلنجيل بالعبرانية ما شاء هللا أن
كبيرا قد عمي ـ فقالت له خديجة :يابن عم ،اسمع من ابن أخيك ،فقال له ورقة :يابن أخي، ً يكتب ،وكان شي ًخا
ماذا ترى؟ فأخبره رسول هللا صلى هللا عليه وسلم خبر ما رأي ،فقال له ورقة :هذا الناموس الذي نزله هللا
على موسى ،يا ليتني فيها َج َذعا ،ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك ،فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :أو
مؤزرا،
ً ِى ،وإن يدركنى يومك أنصرك نص ًرا ي هم؟) قال:نعم ،لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إال عُود َ مخرج ّ
َب ورقة أن توفي ،وفَتَر الوحى.ثم لم يَ ْنش ْ
جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية
قال ابن حجر :وكان ذلك [أي انقطاع الوحي أيا ًما]؛ ليذهب ما كان صلى هللا عليه وسلم وجده من الروع،
وليحصل له التشوف إلى العود ،فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجىء الوحى أكرمه هللا بالوحي مرة ثانية.
قال :صلى هللا عليه وسلم:
شهرا فلما قضيت جوارى هبطت [فلما استبطنت الوادي] فنوديت ،فنظرت عن يميني فلم أر ً (جاورت بحراء
شيئ ًا ،ونظرت عن شمالي فلم أر شيئ ًا ،ونظرت أمامي فلم أر شيئا ،ونظرت خلفي فلم أرشيئ ًا ،فرفعت رأسى
فرأيت شيئ ًا[ ،فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء واألرض ،فَ ُجئِثْتُ منه رعبًا حتى
هويت إلى األرض] فأتيت خديجة فقلت[ :زملوني ،زملوني] ،دثرونى ،وصبوا على ماء باردًا) ،قال( :فدثرونى
وصبوا على ماء باردًا ،فنزلت{ :يَا أَيُّ َها ا ْل ُم َّد ِث ّ ُر قُ ْم فَأَنذ ِْر َو َربَّكَ فَ َك ِبّ ْر َوثِيَابَكَ فَ َط ِ ّه ْر َو ُّ
الرجْ َز فَا ْه ُج ْر} [المدثر:1 :
أقسام الوحى
بيان أقسام الوحى ومراتبه .قال ابن القيم ،وهو يذكر تلك المراتب:
إحداها :الرؤيا الصادقة ،وكانت مبدأ وحيه صلى هللا عليه وسلم.
الثانية :ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه ،كما قال النبي صلى هللا عليه وسلم( :إن روح
القدس نفث في روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ،فاتقوا هللا وأجملوا في الطلب ،وال يحملنكم
استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية هللا ،فإن ما عند هللا ال ينال إال بطاعته).
رجال فيخاطبه حتى يَ ِع َى عنه ما يقول له ،وفي هذهً الثالثة :إنه صلى هللا عليه وسلم كان يتمثل له الملك
المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا.
الرابعة :أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ،وكان أشده عليه ،فيلتبس به الملك ،حتى أن جبينه ليتَفَ َّ
صد
عرقًا في اليوم الشديد البرد ،وحتى أن راحلته لتبرك به إلى األرض إذا كان راكبها ،ولقد جاء الوحى مرة
كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت ،فثقلت عليه حتى كادت ترضها.
الخامسة :إنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ،فيوحى إليه ما شاء هللا أن يوحيه ،وهذا وقع له مرتين
كما ذكر هللا ذلك في سورة النجم.
السادسة :ما أوحاه هللا إليه ،وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصالة وغيرها.
السابعة :كالم هللا له منه إليه بال واسطة ملك كما كلم هللا موسى بن عمران ،وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى
قطعًا بنص القرآن .وثبوتها لنبينا صلى هللا عليه وسلم هو في حديث اإلسراء.
وقـد زاد بعضهم مرتبة ثامنة؛ وهي تكليم هللا له كفا ًحا من غير حجاب ،وهي مسألة خالف بين السلف
والخلف.
المرحلة األولى :من جهاد الدعوة إلي هللا
ثم تال هؤالء أمين هذه األمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر ،وأبو سلمة بن عبد األسد
ى وأخواه قدامة المخزومى ،وامرأته أم سلمة ،واألرقم بن أبي األرقم المخزومى ،وعثمان بن مظعون ال ُج َم ِح ّ
وعبد هللا ،وعبيدة بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف ،وسعيد بن زيد العدوى ،وامرأته فاطمة بنت الخطاب
ع َميْس،
العدوية أخت عمر بن الخطاب ،وخباب بن األرت التميمى ،وجعفر بن أبي طالب ،وامرأته أسماء بنت ُ
وخالد بن سعيد بن العاص األموى ،وامرأته أمينة بنت خلف ،ثم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص ،وحاطب بن
الحارث الجمحي ،وامرأته فاطمة بنت ال ُم َج ِلّل وأخوه الخطاب بن الحارث ،وامرأته فُ َك ْي َهة بنت يسار ،وأخوه
معمر ابن الحارث ،والمطلب بن أزهر الزهري ،وامرأته رملة بنت أبي عوف ،ونعيم بن عبد هللا بن النحام
العدوي ،وهؤالء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش.
ومن السابقين األولين إلى اإلسالم من غير قريش :عبد هللا بن مسعود الهذلي ،ومسعود بن ربيعة القاري،
سنان الرومي، ص َهيْب بن ِ وعبد هللا بن جحش األسدي وأخوه أبو أحمد بن جحش ،وبالل بن رباح الحبشيُ ،
وعمار بن ياسر العنسي ،وأبوه ياسر ،وأمه سمية ،وعامر بن فُهيرة.
وممن سبق إلى اإلسالم من النساء غير من تقدم ذكرهن :أم أيمن بركة الحبشية ،وأم الفضل لبابة الكبرى بنت
الحارث الهاللية زوج العباس بن عبد المطلب ،وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي هللا عنهما.
هؤالء معروفون بالسابقين األولين ،ويظهر بعد التتبع واالستقراء أن عدد الموصوفين بالسبق إلى اإلسالم
رجال وامرأة ،ولكن ال يعرف بالضبط أنهم كلهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة أو تأخر ً وصل إلى مائة وثالثين
إسالم بعضهم إلى الجهر بها.
الجزء الثاني – الدعوة الجهرية