Professional Documents
Culture Documents
الدكتورة مدينة
1988
أيام الجامعة أحببت زميل لي في صمت خائب فلم يدر بي .كانت غلطة عمري مثلما كان نقطة التحول في
طباعي وفي حياتي بأسرها .أدفع اليوم ثمنها غربة ووحدة وضياعا .ويظن حليم أن رواج كتبي السياسية في أمريكا
ومصر هو قمة المجد والنتصار على الحياة .إنه ل يدرك معنى أن يتصادف موتى فجأة في الفيل الضخمة التي أعيش
فيها بمفردي حيث ل تحضر الخادمة إل يومين كل أسبوع .قد تتعفن جثتي لو أصاب الخادمة طارئ مفاجئ فلم تحضر.
وحتى إذا مت بجوارها فكيف يكون تجهيزي للقبر وللحياة الخرة ..وأين سيكون إخوتي وأخواتي المقيمين بالسكندرية
والقاهرة ..جثة دكتورة في القتصاد السياسي مهاجرة من مصر منذ ثلثين عاما تدفن في لحظة ما في مكان ما –
غريبة مغتربة مغربة – ثم تنسى على الفور .ل قرآن ول عزاء ول لوعة أحبة ول مقبرة تزار ول ذكرى تبقى.
حتى لو حضرني سمير زخاري – صديقي المصري الوحيد هنا -فماذا سيفعل بي غير الحزن الوقتي على
سنوات الزمالة الطويلة التي أمضيناها في مصر معا وفي أمريكا ..ثم لن يلبث أن يطلق ضحكته الساخرة المجلجلة
قائل:ا
-رقدت على رجاء القيامة المقدسة المرحومة مدينة محمود .عاشت عذراء وماتت عذراء ..عليها رحمة ال
تعالى .وطوبي لمن اخترته وقبلته يا رب ليسكن في ديارك إلى البد!..
ثم يعود إلى زوجته وأولده..
هذا السمير الرائع ل يستطيع أحد القول بأنه مسيحي أو مسلم أو يهودي ..عليه اللعنة ،فهو الذي أضاع مني ذلك
الزميل إذ جعله يعتقد أنه-أى سمير -سوف يسلم ويتزوجني فصدق دعابته الرجل الطيب وبارك قوله وتزوج من غيري
وتركني في صقيع أمريكا الكريه ..أق أر الكتب وألتهم المراجع والسجائر وأفنى عمري في تجميع معلومات وتدريسها،
ونشر بعضها في الصحف والمجلت العربية على وجه الخصوص ..ل زوج ول ولد ول عزوة ول سند ،فل أقل من أن
أقدم شيئا إلى وطني العربي الذي يشبعه سمير سخرية بالدلة والمنطق لشدة يأسه من احتمال نهضته من جديد.
وكلما شعرت بالوحدة صببت غضبي على سمير فيقول لي:ا
-ل تلقى على باللوم ،فخجلك الشديد – سابقا – هو الذي أضاع منك حبيبك وليست دعابتي معه بشأن إشهار
إسلمي لتزوجك.
إن مراسلتي القليلة لحليم صادق – أعز أصدقائي في مصر بأسرها – هي الرباط الوطني الحميم الذي يصلني
بجذري والذي يشفيني من شدة الحنين الذي ل ينقطع إلى الوطن ،بعد أن أصبح من المستحيل أن أعود إليه تاركة
حياتي هنا ،لعاني من اغتراب أشد قسوة مما أعانيه الن.
حاول سمير م ار ار – قبل أن يتزوج – إقناعي بحياة متحررة نحياها معا بل زواج ،مثلما فعل سارتر وسيمون
دي بوفوار على حد قوله ،على القل يؤنس كل منا الخر في غربته ،ولكني آثرت الحرمان ودفنت روحي وجسدي في
الكتب.
وليت رسالتي قد وصلت إلى قومي كما أريد وأحلم وأتمني ..إني أشك في ذلك تماما ،فأنا أقول وأكتب وغيري
يقول ويكتب ومازال العرب يغطون في نوم عميق وكأنهم ينفذون بروتوكولت حكماء صهيون تنفيذا حرفيا متقنا بأكثر
مما تصور اليهود أن تكون دقة التنفيذ.
قلت يوما لسمير وأنا في قمة الغضب:ا
-تخيل أن هناك ما يقرب من أربعة مليين لغم منبثة في أرض مصر بالعلمين ،حيث تحارب الغراب عليها
وتركوها تائهة بل خرائط ،والنتيجة بوار مليون فدان من الراضي الزراعية وضياع ثروات معدنية وبترولية ومياه جوفية
ل تقدر بمال ،فضل عن مئات القتلى والمشوهين كل عام ..هل رأيت إلى أي مدى يصل احتقار الغرب لنا؟!
تجاهل قولي بخبثه الظريف الذي اعتدته وقال:ا
وهل رأيت اهتمام فقهاء مصر هذه اليام بقضية الرجل ذي الفرعين؟ -
بماذا تهذي؟ -
إن الجرائد مازالت مختلفة حول حكم الرجل إذا كان يمتلك قضيبا بفرعين وجامع امرأة من قبل ودبر في آن -
واحد ..فهل يجب عليه أن يغتسل مرتين؟!
بم أفادتني الموال اليوم وقد دخلت أبواب العقد السادس وفيم أنفقها وهي مكدسة في البنوك ،وأنا لست بحاجة إلى
المزيد من طعام أو شراب أو سكن أو كساء .سوف يأتي يوم أكتب فيه قسطا كبي ار من ثروتي لبناء حليم:ا محمد
وفاطمة بعد أن صا ار شبابا بحاجة إلى المساعدة .أنا أدرك أن حنان أبيهم وعطفه ومودته وطيبة قلبه النادرة تعوضهم
عن مليين الجنيهات .وأشعر من خطاباته أنه يتمتع بقدر كبير من اليمان يجعله واثقا في كرم ال وعطائه فل ينعي
للمستقبل هما ،إوانما يواصل حياته السعيدة مع عايدة والولد في أمان وبل قلق على المستقبل ،رغم أن يديه فارغتان
بحكم وظيفته الحكومية العظيمة والتي ينطبق عليها المثل الشعبي الدارج "الصيت ول الغنى".
قارنت وضع حليم الفنان المثقف بما قرأته عن قصر سلطان بروناي الذي يقدر بنصف مليار دولر ،فعرضت
الجريدة على سمير وسألته الرأي في تلك المقارنة السخيفة .أجاب ساخرا:ا
أنصحك بالزواج من هذا السلطان والنضمام إلى حريمه ودعى عنك هم الكتب والعذرية. -
فجأة سألته:ا
اسمع يا سمير ..لماذا ل نعود إلى مصر؟ -
من؟ -
أنا وأنت وأسرتك. -
لماذا؟ -
لنعيش بقية عمرنا وسط أهلينا. -
هل تتصورين حال مصر الن أم أنك تطلقين الكلم على عواهنه ؟ -
صف لي تصوراتك أنت. -
يقولون إن مصر أغني دولة مفلسة في العالم ،تجمع بين اشتراكية من النمط القديم ،إواصلحات تتمشى مع -
السوق الحرة ،وبين حكومة شبه مفلسة وثروات خاصة طائلة.
من هؤلء الذين يقولون ذلك؟ ..المصريون؟ -
هذا قول دبلوماسي غربي في حديث له بصحيفة لندنية. -
إنه كاذب ومغرض. -
لدي دليل بسيط على صدقه. -
ما هو؟ -
ما ذكرته لي من قليل عن الحالة القتصادية لسرة حليم الموظف المفلس الشريف وكل من على شاكلته. -
رغم ذلك فأنا أفكر جديا في العودة للعيش بين أهلي ووطني. -
لكن المر يختلف معي. -
لماذا؟ -
الرهاب. -
الرهاب ليس قاص ار على القباط وأنت تعلم جيدا. -
لدي فكرة جيدة. -
ما هي؟ -
غدا موعد الدكتورة مريم مع الدكتور على الفيتوري لستلم أوراق تعيينها بجامعتكم المدللة الشبيهة بفنادق -
الخمسة نجوم.
وما شأن هذا بموضوعنا؟ -
نشركها في الحوار فمعلوماتها عن مصر الن وفيرة وربما أفدنا من آرائها. -
أراها متشبثة بأمريكا ولول بقية من حياء لعلنت كراهيتها لمصر بسبب اغتيال شقيقها. -
ضعي نفسك مكانها فربما التمست لها بعض العذر ول أقول كله. -
***