You are on page 1of 3

‫) ‪( 24‬‬

‫الدكتورة مدينة‬
‫‪1988‬‬
‫أيام الجامعة أحببت زميل لي في صمت خائب فلم يدر بي‪ .‬كانت غلطة عمري مثلما كان نقطة التحول في‬
‫طباعي وفي حياتي بأسرها‪ .‬أدفع اليوم ثمنها غربة ووحدة وضياعا‪ .‬ويظن حليم أن رواج كتبي السياسية في أمريكا‬
‫ومصر هو قمة المجد والنتصار على الحياة‪ .‬إنه ل يدرك معنى أن يتصادف موتى فجأة في الفيل الضخمة التي أعيش‬
‫فيها بمفردي حيث ل تحضر الخادمة إل يومين كل أسبوع‪ .‬قد تتعفن جثتي لو أصاب الخادمة طارئ مفاجئ فلم تحضر‪.‬‬
‫وحتى إذا مت بجوارها فكيف يكون تجهيزي للقبر وللحياة الخرة‪ ..‬وأين سيكون إخوتي وأخواتي المقيمين بالسكندرية‬
‫والقاهرة‪ ..‬جثة دكتورة في القتصاد السياسي مهاجرة من مصر منذ ثلثين عاما تدفن في لحظة ما في مكان ما –‬
‫غريبة مغتربة مغربة – ثم تنسى على الفور‪ .‬ل قرآن ول عزاء ول لوعة أحبة ول مقبرة تزار ول ذكرى تبقى‪.‬‬
‫حتى لو حضرني سمير زخاري – صديقي المصري الوحيد هنا‪ -‬فماذا سيفعل بي غير الحزن الوقتي على‬
‫سنوات الزمالة الطويلة التي أمضيناها في مصر معا وفي أمريكا‪ ..‬ثم لن يلبث أن يطلق ضحكته الساخرة المجلجلة‬
‫قائل‪:‬ا‬
‫‪ -‬رقدت على رجاء القيامة المقدسة المرحومة مدينة محمود‪ .‬عاشت عذراء وماتت عذراء‪ ..‬عليها رحمة ال‬
‫تعالى‪ .‬وطوبي لمن اخترته وقبلته يا رب ليسكن في ديارك إلى البد!‪..‬‬
‫ثم يعود إلى زوجته وأولده‪..‬‬
‫هذا السمير الرائع ل يستطيع أحد القول بأنه مسيحي أو مسلم أو يهودي‪ ..‬عليه اللعنة‪ ،‬فهو الذي أضاع مني ذلك‬
‫الزميل إذ جعله يعتقد أنه‪-‬أى سمير‪ -‬سوف يسلم ويتزوجني فصدق دعابته الرجل الطيب وبارك قوله وتزوج من غيري‬
‫وتركني في صقيع أمريكا الكريه‪ ..‬أق أر الكتب وألتهم المراجع والسجائر وأفنى عمري في تجميع معلومات وتدريسها‪،‬‬
‫ونشر بعضها في الصحف والمجلت العربية على وجه الخصوص‪ ..‬ل زوج ول ولد ول عزوة ول سند‪ ،‬فل أقل من أن‬
‫أقدم شيئا إلى وطني العربي الذي يشبعه سمير سخرية بالدلة والمنطق لشدة يأسه من احتمال نهضته من جديد‪.‬‬
‫وكلما شعرت بالوحدة صببت غضبي على سمير فيقول لي‪:‬ا‬
‫‪-‬ل تلقى على باللوم‪ ،‬فخجلك الشديد – سابقا – هو الذي أضاع منك حبيبك وليست دعابتي معه بشأن إشهار‬
‫إسلمي لتزوجك‪.‬‬
‫إن مراسلتي القليلة لحليم صادق – أعز أصدقائي في مصر بأسرها – هي الرباط الوطني الحميم الذي يصلني‬
‫بجذري والذي يشفيني من شدة الحنين الذي ل ينقطع إلى الوطن‪ ،‬بعد أن أصبح من المستحيل أن أعود إليه تاركة‬
‫حياتي هنا‪ ،‬لعاني من اغتراب أشد قسوة مما أعانيه الن‪.‬‬
‫حاول سمير م ار ار – قبل أن يتزوج – إقناعي بحياة متحررة نحياها معا بل زواج‪ ،‬مثلما فعل سارتر وسيمون‬
‫دي بوفوار على حد قوله‪ ،‬على القل يؤنس كل منا الخر في غربته‪ ،‬ولكني آثرت الحرمان ودفنت روحي وجسدي في‬
‫الكتب‪.‬‬
‫وليت رسالتي قد وصلت إلى قومي كما أريد وأحلم وأتمني‪ ..‬إني أشك في ذلك تماما‪ ،‬فأنا أقول وأكتب وغيري‬
‫يقول ويكتب ومازال العرب يغطون في نوم عميق وكأنهم ينفذون بروتوكولت حكماء صهيون تنفيذا حرفيا متقنا بأكثر‬
‫مما تصور اليهود أن تكون دقة التنفيذ‪.‬‬
‫قلت يوما لسمير وأنا في قمة الغضب‪:‬ا‬
‫‪ -‬تخيل أن هناك ما يقرب من أربعة مليين لغم منبثة في أرض مصر بالعلمين‪ ،‬حيث تحارب الغراب عليها‬
‫وتركوها تائهة بل خرائط‪ ،‬والنتيجة بوار مليون فدان من الراضي الزراعية وضياع ثروات معدنية وبترولية ومياه جوفية‬
‫ل تقدر بمال‪ ،‬فضل عن مئات القتلى والمشوهين كل عام‪ ..‬هل رأيت إلى أي مدى يصل احتقار الغرب لنا؟!‬
‫تجاهل قولي بخبثه الظريف الذي اعتدته وقال‪:‬ا‬
‫وهل رأيت اهتمام فقهاء مصر هذه اليام بقضية الرجل ذي الفرعين؟‬ ‫‪-‬‬
‫بماذا تهذي؟‬ ‫‪-‬‬
‫إن الجرائد مازالت مختلفة حول حكم الرجل إذا كان يمتلك قضيبا بفرعين وجامع امرأة من قبل ودبر في آن‬ ‫‪-‬‬
‫واحد‪ ..‬فهل يجب عليه أن يغتسل مرتين؟!‬
‫بم أفادتني الموال اليوم وقد دخلت أبواب العقد السادس وفيم أنفقها وهي مكدسة في البنوك‪ ،‬وأنا لست بحاجة إلى‬
‫المزيد من طعام أو شراب أو سكن أو كساء‪ .‬سوف يأتي يوم أكتب فيه قسطا كبي ار من ثروتي لبناء حليم‪:‬ا محمد‬
‫وفاطمة بعد أن صا ار شبابا بحاجة إلى المساعدة‪ .‬أنا أدرك أن حنان أبيهم وعطفه ومودته وطيبة قلبه النادرة تعوضهم‬
‫عن مليين الجنيهات‪ .‬وأشعر من خطاباته أنه يتمتع بقدر كبير من اليمان يجعله واثقا في كرم ال وعطائه فل ينعي‬
‫للمستقبل هما‪ ،‬إوانما يواصل حياته السعيدة مع عايدة والولد في أمان وبل قلق على المستقبل‪ ،‬رغم أن يديه فارغتان‬
‫بحكم وظيفته الحكومية العظيمة والتي ينطبق عليها المثل الشعبي الدارج "الصيت ول الغنى"‪.‬‬
‫قارنت وضع حليم الفنان المثقف بما قرأته عن قصر سلطان بروناي الذي يقدر بنصف مليار دولر‪ ،‬فعرضت‬
‫الجريدة على سمير وسألته الرأي في تلك المقارنة السخيفة‪ .‬أجاب ساخرا‪:‬ا‬
‫أنصحك بالزواج من هذا السلطان والنضمام إلى حريمه ودعى عنك هم الكتب والعذرية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فجأة سألته‪:‬ا‬
‫اسمع يا سمير‪ ..‬لماذا ل نعود إلى مصر؟‬ ‫‪-‬‬
‫من؟‬ ‫‪-‬‬
‫أنا وأنت وأسرتك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لماذا؟‬ ‫‪-‬‬
‫لنعيش بقية عمرنا وسط أهلينا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫هل تتصورين حال مصر الن أم أنك تطلقين الكلم على عواهنه ؟‬ ‫‪-‬‬
‫صف لي تصوراتك أنت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫يقولون إن مصر أغني دولة مفلسة في العالم‪ ،‬تجمع بين اشتراكية من النمط القديم‪ ،‬إواصلحات تتمشى مع‬ ‫‪-‬‬
‫السوق الحرة‪ ،‬وبين حكومة شبه مفلسة وثروات خاصة طائلة‪.‬‬
‫من هؤلء الذين يقولون ذلك؟‪ ..‬المصريون؟‬ ‫‪-‬‬
‫هذا قول دبلوماسي غربي في حديث له بصحيفة لندنية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إنه كاذب ومغرض‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لدي دليل بسيط على صدقه‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ما هو؟‬ ‫‪-‬‬
‫ما ذكرته لي من قليل عن الحالة القتصادية لسرة حليم الموظف المفلس الشريف وكل من على شاكلته‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫رغم ذلك فأنا أفكر جديا في العودة للعيش بين أهلي ووطني‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لكن المر يختلف معي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لماذا؟‬ ‫‪-‬‬
‫الرهاب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الرهاب ليس قاص ار على القباط وأنت تعلم جيدا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لدي فكرة جيدة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ما هي؟‬ ‫‪-‬‬
‫غدا موعد الدكتورة مريم مع الدكتور على الفيتوري لستلم أوراق تعيينها بجامعتكم المدللة الشبيهة بفنادق‬ ‫‪-‬‬
‫الخمسة نجوم‪.‬‬
‫وما شأن هذا بموضوعنا؟‬ ‫‪-‬‬
‫نشركها في الحوار فمعلوماتها عن مصر الن وفيرة وربما أفدنا من آرائها‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أراها متشبثة بأمريكا ولول بقية من حياء لعلنت كراهيتها لمصر بسبب اغتيال شقيقها‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ضعي نفسك مكانها فربما التمست لها بعض العذر ول أقول كله‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫***‬

You might also like