Professional Documents
Culture Documents
حليم صادق
1993
في الموعد المصرح به للقتراب من باب الجنة الموعودة كنت أعبر الشارع إلى موقع اللقاء .رأيتها جالسة في
عربتها وعلى وجهها ابتسامة مترعة بكل متناقضات الدنيا ،معبرة أدق تعبير عن طبيعة الحال .رأيت فيها الشوق
والفرحة والخوف والقلق والسعادة واللهفة ..الشعور بالذنب والندم .القدام والحجام .السخط والرضا ..امتصت أعصابي
ابتسامتها الحائرة الخجلي فصرت أنا الذي يعاني لها ما تعانيه.
أحبتني مريم ..أحقا هذا؟ ..لقد أيقنت بحدسها الرهيب أنني مدرك بالقلب لدقائق مشاعرها ،غائص بالحب في
سراديبها فحالها من حال محبتي ..ضربت لي مريم موعدا ..أهذا حق؟! ..قال لي صديق ذات يوم إن تبادل الحب في
هذا الزمان بحاجة إلى عبقرية فذة ..فالحب هو أنت ،وأنا لن أحبك ما لم تكن أنا ..وأنت لن تكون أنا إل إذا كنت
عبقريا في علمك إواحساسك بأدق وأرق دقائق ورقائق خلجاتي ونبضاتي وأوهامي وأحلمي وظنوني وأوجاعي وأفراحي
وأتراحي.
بهدوئها الذي يغلي في مستودع أسرارها فتحت لي باب العربة قبل أن أصل إليها بعدة خطوات ..نحن الن في
حالة تلبس باختراق العرف واقتحام القيم ،لننا في لقاء غرامي ممنوع يجمع رجل في الخمسين بامرأة في الرابعة
والخمسين وكلهما عاش حياته المستقرة كاملة وتزوج وأنجب ..ومع أول تلمس لليدين عند المصافحة كنا ندرك معا
في صمت أننا نخطو خطوة نحو الخطيئة ..من يخطر بباله الن أن هذه السيدة الجليلة الوقور تغادر بيتها وعملها
لتلتقي بي ،وكأنما أسلمتني عقلها الذي يزيد في ثقله كثي ار عن عقول عشرات الرجال؟ ..ذلك لنها تعرف الحب لول
مرة ،والحب ل يعرف العقل ..وكنت قد سألتها قريبا وجسدي يقطر عرقا ولساني يتلعثم في حروفه:
هل أحببت يوما؟ -
فهزت رأسها نافية بل انفعال.
وهل تحبينني؟ -
فهزت رأسها مؤيد ة في حياء سلبني روحي ..لكنها لم تتكلم!
ها هي تقود السيارة في استسلم قدري رائع إلى مصيرنا المجهول .ماذا لو اصطدمت السيارة بأخرى فتهشمت
وأصبنا بجروح ونقلنا إلى المستشفي ،وعلمت الدنيا والخرة أننا كنا معا في العربة وأمامنا مشروبان مثلجان أحضرتهما
معها تحاشيا للجلوس في مكان عام!!..
جلسنا عند نهاية الكورنيش داخل العربة في مواجهة طابية قايتباي الثرية .لم يكن أحدنا يعرف كيف يبدأ
القول وماذا يقول .فجأة قالت لي بحسم:
من العار أل تعرف سبب نقلك أو انتدابك. -
سوف أعرف بإذن ال. -
ومن الضعف أن تمتثل له دون أدنى مقاومة حتى تعود بأسرع ما يمكن. -
لم تفلح عباراتها النارية في إذابة حزني العميق .أهكذا كتب لعلقتنا أن تموت قبل أن تولد؟ ..أل في ذلك
حكمة؟ ..شعرت برغبة في البكاء إذ يبدو أن المر كذلك حقا ،ذلك أنني كنت قد شرعت من خلل تدريب روحاني عنيف
منذ عام مضي على إعداد نفسي للزهد قليل في الدنيا والقتراب من ال .لكن مجيء مريم كان ابتلء متزامنا مع ما
انتويته ،ولهذا خيل إلى أنها رسالة مجهولة المصدر مبعوثة إلىى لتقول إنني تعجلت في رغبتي وأن أياما في هذه الدنيا
أحلى من العسل مازالت قادمة في الطريق ،فل تحرم نفسك منها ،وتوقيتك للقرب لم يأت بعد .صحيح أنك قد تموت بعد
كسر من الثانية فل تطول هذا ول ذاك ،لكن هذا البتلء سوف ينفض التراب والصدأ عن معدنك الحقيقي ،فالحب الثاني
قد يصهر الرجل وينتقل به إلى حياة تتحرر من الجوع والنهم والسرعة وتنحو نحو الطمأنينة العارفة ،وما أجملها من
حياة تزينها صحبة مريم الرائعة وصداقتها الطاهرة ،حياة يسمو بها العقل إلى الروح ول يتهابط إلى تراب الجسد ..ولئن
كان عمري كله تاجا مرصعا بجواهر الحب والمعرفة ،فمريم عندي هي درة هذا التاج الذي يتلل على جبيني بأنوار الخير
والجمال.
هل يعجبك هذا؟ -
ماذا؟ -
وجودنا معا في عربة على قارعة الطريق! -
يعجبني ويدهشني ويسعدني. -
ل شك أنني أصبحت أتصرف كمجنونة بسببك. -
لكنك أجمل مجنونة رأيتها على وجه الرض. -
ليلة المس حين وضعت رأسي على الوسادة كان وجهها ملصقا لوجهي وأنفاسها تلفح أنفاسي .تحسست
بأناملي أنفها الروماني المصري الفرعوني ذا الكبرياء المجنون .قبلتها في عينيها غير عابئ بمقولة الفراق ..هاهو
يتحقق ..ثم قبلتها على جبينها المضيء عرفانا بحبها العظيم لي – ذلك الذي لم تفصح بلسانها عنه – ثم على
وجنتيها النضرتين عشقا في جمال الخالق في مخلوقته التي صارت حبيبة إلى قلبي .أحطت خصرها بيدي ..ذابت
بكيانها فوق صدري فلثمت شفتيها بحنان العاشق ولهفة المشتاق ..لم يعرف النوم طريقه إلى عيني قبل أن ينهكني
الرق الجميل فأدرك أن أيامي قد صار لها معنى وأن في استمرارها رفاهية لم أكن أحلم بها.
حين استيقظت كانت عايدة بجواري فعرفت أن الثبات ل يعرف القلب ول الزمن .سوف أحمل مدفعا رشاشا
وأنزل إلى الشارع أطلق نيراني على الموت والملل .ولئن نجح الماضي في الستبداد بحياتنا وتجميدها فليكن المستقبل
لنا ،ولنلتقي ول نفكر في وفيق أو عايدة " فلقد دخلت جنتي يا أختي العروس".
***
كنت أتصور أن الذي يدفع الدماء ويضخ الحياة في هذا الكيان الخرساني المتصخر ،إن هو إل قلب قىد من
فولذ ..ولكن ما أن اقتحمت القلعة من بابها القدري الذي لم يهتد إلى سره أحد من قبلي ،إل ووجدت نفسي أمام قلب
عصفورة صغيرة أخضر اللون .هش كزجاج رقيق .يا ال .أهذا قلب مريم أنم تراني في حلم جميل؟
إني أدعو ال من قلبي بالسعادة لذلك الرجل المجهول الذي أصدر قرار نقلي إلى القصر فكشف لي عن
مكنون قلب حبيبتي .إنها تحبك يا حليم .تحبك .هل تدرك ما تقول وتوقن أنه حقيقة أم أنك تحلم؟ ..لقد تكلمت عيناها
بلغة مفهومة واضحة جلية لول مرة .كانت حزينة للنبأ .متلهفة على قرار مضاد يصدر في التو واللحظة ليلغي هذا
القرار.
اندفعت إليها بلهفة عمري كله .بخمسين عاما ولت في ثوان ،بالعمر المتبقي الذي لن يكتب له البقاء قبل
ارتشاف رحيق القبلة الولى .بعيني طفل برئ يرى الدنيا لول مرة ول يعرف الضلل ول الهدى .بقلب شاب ل يخطر
الموت بفكره .اقتربت بوجهي من وجهها .كانت وجنتها تفاحة حمراء صابحة ،وكانت المسافة بين جبهتينا لحنا غامضا
يعزفه القدر .تسلل أريجها إلى أنفي فكانت أنفاسها نبض الحياة منذ بدء الخليقة .وعندما اقتربت المسافة بيننا كانت
الدنيا بأسرها لقاء حافل يدعو إلى العناق ..وكانت الخرة امتدادا لها ،فكانت الجنة وكانت النار ،وكان التاريخ والتراث
والدين والعراف والخلق والزل والبد ونسمة صيف لفحة وترنيمة طير أخضر رقيق ..ذابوا جميعا في عناق في تلك
المساحة الفاصلة بين وجنتينا ،والتى كلما انحسرت أشعلت حرارة الشوق فاستحال النحسار إلى اتساع ل نهاية له..
كون سرمدي يعج بأسرار الخلق والبدء والنتهاء والوجود والعدم كان يشغل تلك المسافة زمانا ومكانا ..ما أروع أن
تجتمع أكثر من مائة عام بين شفاه أربع يتهددها الفراق الوقتي من قبل أن تلتقي وأن يذوب كل هذا العمر في لحظة
هي رشفة من رضاب الحب المسكر ..أن تهدر شللت الذكريات بين أعطاف ذلك التماس الشفيف الحاني وأن يتكثف
الوجود كله في لحظة ملهمة تنصهر فيها السرار والمعاني وكل مال يقال وما ل يدرك بحرارة ذلك اللقاء.
وفي اللحظة التي تلشت فيها المسافة واقتربت الشفاه ،اقتحمنا هاجس غامض متوحش لم أدر من أين جاء
بسطوته وقوته وجبروته ليضع بيننا حاج از عنيدا على كف مريم تخفي به خدها الوردى الجميل لتحول دون تحقق لحظة
النتشاء المقدسة .كفها يفصل بين وجهي ووجهها كحد سيف يرتعش بقوة ،ويضيق فؤادها بالسر فيتفجر في المسافة
المتلشية لحن القدر بقوة رعدية تحيل العناق إلى حرب قاسية يتأجج فيها الصراع بين النار والجنة والشياطين والملئكة
ودانيال والمتطرفين والحرام والحلل والخيانة والمانة ووفيق وعايدة ..على جبهتين ،تحارب إحداهما انتصا ار للحب
والثانية لدموع الشفق الحزين.
ل… -
شهقت بها مريم وقد تقطعت أنفاسها النارية المتهدجة في الهوة السحيقة الفاصلة بين وعيها وقلبها ،وقد أسفرت الحرب
عن تمزيق روحها إلى شطرين تفصل بينهما تلك الهوة ،ممثلة في الكف المتصلب الحاجز ،ومريم عاجزة عن لم شملها
بينهما ..وكان الشارع خاليا من المارة وكان السر حبيس صدرينا وأسلحة الضداد مشهرة في عقلها – وفي عقلي أيضا
– بعد أن نجح المجهول الغامض في حصارنا داخل عربتها الصغيرة في شارع ضيق بمدينة مزدحمة ودنيا ال واسعة
بالمروج والصحاري والوديان والغابات والنهار.
منعنا ذلك الشيء المجهول من اللقاء على المل .حال دون خلوتنا في مكان آمن .سلبنا القدرة على الكلم
الحر .أفرغ سما في ضميرنا المتوحد الذي لم يهتد الشر إليه ..لتقول لي مريم بعينين دامعتين متوسلتين:
ل.. -
تقولها بنبرة عذراء ،مرتبكة في حيائها الذي أحال روحي إلى رجفة يتنازعها الخوف والرجاء ..لماذا يحرم علينا
الحب ،ولماذا تقيد روحانا بالفولذ فأرى على كف مريم – الماثل أمام شفتي كسد من صخر – خطوط القتال وأنهار
الدماء ومقابر الضحايا والشهداء وصيحات الملوك وهدير الجنود وانهيال الرماح وتساقط الصواريخ وانفجار اللغام وبكاء
الباء على البناء ثم معاهدات الصلح وعناق الكذب وتوقيعات الزعماء على الوثائق ،وتبحث شفتاي المحمومتان عن
شفتي مريم فل تجدهما ..وتبكي مئذنة!
ل… -
إني أحببتك فوق التصور رغم أن المستحيل هو أن يكون أحدنا للخر حتى النهاية .إواني أق أر في عينيك ما
قرأته في عمري من صفحات القرآن والتوراة والنجيل .اقتلوني ومزقوا جسدي وبعثروا مزقه في أرجاء الدنيا – أيا ما كنتم
– فلن تحرموني من قبلة الحبيبة.
يا مريم حطمي حصون تذبذبك بين الحب والحقد وأغمضي نجمتيك الشاردتين لنور القمر .إني قادر على
هزيمة شياطين الرض فلقد استحلت فجأة إلى وحش يمسك بكف مريم .يزيحها بقوة عن وجهها فتتساقط الشياطين
كالذباب ،ول نامت أعين الجبناء ..لكني لم أحتمل أن تلمح عيناي ذلك الفزع الرهيب في عيني حبيبتي ،فتراجعت في نبل
إشفاقا عليها .ابتعدت لربت على ظهرها واكتفى بتقبيل يدها ،ودموعي متحجرة في عيني ،وروحي حبيسة ابتسامة
الهاجس الخبيثة الظافرة..
أحقا أسافر يا مريم وتتركيني وحيدا في مواجهة الكون .أحقا لن أراك لجل غير مسمى ورغم ذلك تحول كفك
بين شفتي وشفتيك حتى ل أقبلك؟!
انتزعت من روحي بسمة من يرى نه ار من حنانه يسيل من العربة إلى أرض الطريق ..وكنت أرى النجوم
تتساقط أمامي والقمار وأنا عاجز عن التقاطها .وحين أدركت أن عمرى القادم لم تكتب صفحته الولى بعد ،كان ل بد
أن نغادر الشارع الذي وصلنا إليه ليعود كل منا إلى جدرانه الربعة حيث عالمه المستقر القديم.
***