You are on page 1of 5

‫) ‪( 22‬‬

‫حليم صادق‬
‫‪1993‬‬
‫في الموعد المصرح به للقتراب من باب الجنة الموعودة كنت أعبر الشارع إلى موقع اللقاء‪ .‬رأيتها جالسة في‬
‫عربتها وعلى وجهها ابتسامة مترعة بكل متناقضات الدنيا‪ ،‬معبرة أدق تعبير عن طبيعة الحال‪ .‬رأيت فيها الشوق‬
‫والفرحة والخوف والقلق والسعادة واللهفة‪ ..‬الشعور بالذنب والندم‪ .‬القدام والحجام‪ .‬السخط والرضا‪ ..‬امتصت أعصابي‬
‫ابتسامتها الحائرة الخجلي فصرت أنا الذي يعاني لها ما تعانيه‪.‬‬
‫أحبتني مريم‪ ..‬أحقا هذا؟‪ ..‬لقد أيقنت بحدسها الرهيب أنني مدرك بالقلب لدقائق مشاعرها‪ ،‬غائص بالحب في‬
‫سراديبها فحالها من حال محبتي‪ ..‬ضربت لي مريم موعدا‪ ..‬أهذا حق؟!‪ ..‬قال لي صديق ذات يوم إن تبادل الحب في‬
‫هذا الزمان بحاجة إلى عبقرية فذة‪ ..‬فالحب هو أنت‪ ،‬وأنا لن أحبك ما لم تكن أنا‪ ..‬وأنت لن تكون أنا إل إذا كنت‬
‫عبقريا في علمك إواحساسك بأدق وأرق دقائق ورقائق خلجاتي ونبضاتي وأوهامي وأحلمي وظنوني وأوجاعي وأفراحي‬
‫وأتراحي‪.‬‬
‫بهدوئها الذي يغلي في مستودع أسرارها فتحت لي باب العربة قبل أن أصل إليها بعدة خطوات‪ ..‬نحن الن في‬
‫حالة تلبس باختراق العرف واقتحام القيم ‪ ،‬لننا في لقاء غرامي ممنوع يجمع رجل في الخمسين بامرأة في الرابعة‬
‫والخمسين وكلهما عاش حياته المستقرة كاملة وتزوج وأنجب‪ ..‬ومع أول تلمس لليدين عند المصافحة كنا ندرك معا‬
‫في صمت أننا نخطو خطوة نحو الخطيئة‪ ..‬من يخطر بباله الن أن هذه السيدة الجليلة الوقور تغادر بيتها وعملها‬
‫لتلتقي بي‪ ،‬وكأنما أسلمتني عقلها الذي يزيد في ثقله كثي ار عن عقول عشرات الرجال؟‪ ..‬ذلك لنها تعرف الحب لول‬
‫مرة‪ ،‬والحب ل يعرف العقل‪ ..‬وكنت قد سألتها قريبا وجسدي يقطر عرقا ولساني يتلعثم في حروفه‪:‬‬
‫هل أحببت يوما؟‬ ‫‪-‬‬
‫فهزت رأسها نافية بل انفعال‪.‬‬
‫وهل تحبينني؟‬ ‫‪-‬‬
‫فهزت رأسها مؤيد ة في حياء سلبني روحي‪ ..‬لكنها لم تتكلم!‬
‫ها هي تقود السيارة في استسلم قدري رائع إلى مصيرنا المجهول‪ .‬ماذا لو اصطدمت السيارة بأخرى فتهشمت‬
‫وأصبنا بجروح ونقلنا إلى المستشفي‪ ،‬وعلمت الدنيا والخرة أننا كنا معا في العربة وأمامنا مشروبان مثلجان أحضرتهما‬
‫معها تحاشيا للجلوس في مكان عام!!‪..‬‬
‫جلسنا عند نهاية الكورنيش داخل العربة في مواجهة طابية قايتباي الثرية‪ .‬لم يكن أحدنا يعرف كيف يبدأ‬
‫القول وماذا يقول‪ .‬فجأة قالت لي بحسم‪:‬‬
‫من العار أل تعرف سبب نقلك أو انتدابك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫سوف أعرف بإذن ال‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ومن الضعف أن تمتثل له دون أدنى مقاومة حتى تعود بأسرع ما يمكن‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لم تفلح عباراتها النارية في إذابة حزني العميق‪ .‬أهكذا كتب لعلقتنا أن تموت قبل أن تولد؟‪ ..‬أل في ذلك‬
‫حكمة؟‪ ..‬شعرت برغبة في البكاء إذ يبدو أن المر كذلك حقا‪ ،‬ذلك أنني كنت قد شرعت من خلل تدريب روحاني عنيف‬
‫منذ عام مضي على إعداد نفسي للزهد قليل في الدنيا والقتراب من ال‪ .‬لكن مجيء مريم كان ابتلء متزامنا مع ما‬
‫انتويته‪ ،‬ولهذا خيل إلى أنها رسالة مجهولة المصدر مبعوثة إلىى لتقول إنني تعجلت في رغبتي وأن أياما في هذه الدنيا‬
‫أحلى من العسل مازالت قادمة في الطريق‪ ،‬فل تحرم نفسك منها‪ ،‬وتوقيتك للقرب لم يأت بعد‪ .‬صحيح أنك قد تموت بعد‬
‫كسر من الثانية فل تطول هذا ول ذاك‪ ،‬لكن هذا البتلء سوف ينفض التراب والصدأ عن معدنك الحقيقي‪ ،‬فالحب الثاني‬
‫قد يصهر الرجل وينتقل به إلى حياة تتحرر من الجوع والنهم والسرعة وتنحو نحو الطمأنينة العارفة‪ ،‬وما أجملها من‬
‫حياة تزينها صحبة مريم الرائعة وصداقتها الطاهرة‪ ،‬حياة يسمو بها العقل إلى الروح ول يتهابط إلى تراب الجسد‪ ..‬ولئن‬
‫كان عمري كله تاجا مرصعا بجواهر الحب والمعرفة‪ ،‬فمريم عندي هي درة هذا التاج الذي يتلل على جبيني بأنوار الخير‬
‫والجمال‪.‬‬
‫هل يعجبك هذا؟‬ ‫‪-‬‬
‫ماذا؟‬ ‫‪-‬‬
‫وجودنا معا في عربة على قارعة الطريق!‬ ‫‪-‬‬
‫يعجبني ويدهشني ويسعدني‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ل شك أنني أصبحت أتصرف كمجنونة بسببك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لكنك أجمل مجنونة رأيتها على وجه الرض‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ليلة المس حين وضعت رأسي على الوسادة كان وجهها ملصقا لوجهي وأنفاسها تلفح أنفاسي‪ .‬تحسست‬
‫بأناملي أنفها الروماني المصري الفرعوني ذا الكبرياء المجنون‪ .‬قبلتها في عينيها غير عابئ بمقولة الفراق‪ ..‬هاهو‬
‫يتحقق‪ ..‬ثم قبلتها على جبينها المضيء عرفانا بحبها العظيم لي – ذلك الذي لم تفصح بلسانها عنه – ثم على‬
‫وجنتيها النضرتين عشقا في جمال الخالق في مخلوقته التي صارت حبيبة إلى قلبي‪ .‬أحطت خصرها بيدي‪ ..‬ذابت‬
‫بكيانها فوق صدري فلثمت شفتيها بحنان العاشق ولهفة المشتاق‪ ..‬لم يعرف النوم طريقه إلى عيني قبل أن ينهكني‬
‫الرق الجميل فأدرك أن أيامي قد صار لها معنى وأن في استمرارها رفاهية لم أكن أحلم بها‪.‬‬
‫حين استيقظت كانت عايدة بجواري فعرفت أن الثبات ل يعرف القلب ول الزمن‪ .‬سوف أحمل مدفعا رشاشا‬
‫وأنزل إلى الشارع أطلق نيراني على الموت والملل‪ .‬ولئن نجح الماضي في الستبداد بحياتنا وتجميدها فليكن المستقبل‬
‫لنا‪ ،‬ولنلتقي ول نفكر في وفيق أو عايدة " فلقد دخلت جنتي يا أختي العروس"‪.‬‬
‫***‬
‫كنت أتصور أن الذي يدفع الدماء ويضخ الحياة في هذا الكيان الخرساني المتصخر‪ ،‬إن هو إل قلب قىد من‬
‫فولذ‪ ..‬ولكن ما أن اقتحمت القلعة من بابها القدري الذي لم يهتد إلى سره أحد من قبلي‪ ،‬إل ووجدت نفسي أمام قلب‬
‫عصفورة صغيرة أخضر اللون‪ .‬هش كزجاج رقيق‪ .‬يا ال‪ .‬أهذا قلب مريم أنم تراني في حلم جميل؟‬
‫إني أدعو ال من قلبي بالسعادة لذلك الرجل المجهول الذي أصدر قرار نقلي إلى القصر فكشف لي عن‬
‫مكنون قلب حبيبتي‪ .‬إنها تحبك يا حليم‪ .‬تحبك‪ .‬هل تدرك ما تقول وتوقن أنه حقيقة أم أنك تحلم؟‪ ..‬لقد تكلمت عيناها‬
‫بلغة مفهومة واضحة جلية لول مرة‪ .‬كانت حزينة للنبأ‪ .‬متلهفة على قرار مضاد يصدر في التو واللحظة ليلغي هذا‬
‫القرار‪.‬‬
‫اندفعت إليها بلهفة عمري كله‪ .‬بخمسين عاما ولت في ثوان‪ ،‬بالعمر المتبقي الذي لن يكتب له البقاء قبل‬
‫ارتشاف رحيق القبلة الولى‪ .‬بعيني طفل برئ يرى الدنيا لول مرة ول يعرف الضلل ول الهدى‪ .‬بقلب شاب ل يخطر‬
‫الموت بفكره‪ .‬اقتربت بوجهي من وجهها‪ .‬كانت وجنتها تفاحة حمراء صابحة‪ ،‬وكانت المسافة بين جبهتينا لحنا غامضا‬
‫يعزفه القدر‪ .‬تسلل أريجها إلى أنفي فكانت أنفاسها نبض الحياة منذ بدء الخليقة‪ .‬وعندما اقتربت المسافة بيننا كانت‬
‫الدنيا بأسرها لقاء حافل يدعو إلى العناق‪ ..‬وكانت الخرة امتدادا لها‪ ،‬فكانت الجنة وكانت النار‪ ،‬وكان التاريخ والتراث‬
‫والدين والعراف والخلق والزل والبد ونسمة صيف لفحة وترنيمة طير أخضر رقيق‪ ..‬ذابوا جميعا في عناق في تلك‬
‫المساحة الفاصلة بين وجنتينا‪ ،‬والتى كلما انحسرت أشعلت حرارة الشوق فاستحال النحسار إلى اتساع ل نهاية له‪..‬‬
‫كون سرمدي يعج بأسرار الخلق والبدء والنتهاء والوجود والعدم كان يشغل تلك المسافة زمانا ومكانا‪ ..‬ما أروع أن‬
‫تجتمع أكثر من مائة عام بين شفاه أربع يتهددها الفراق الوقتي من قبل أن تلتقي وأن يذوب كل هذا العمر في لحظة‬
‫هي رشفة من رضاب الحب المسكر‪ ..‬أن تهدر شللت الذكريات بين أعطاف ذلك التماس الشفيف الحاني وأن يتكثف‬
‫الوجود كله في لحظة ملهمة تنصهر فيها السرار والمعاني وكل مال يقال وما ل يدرك بحرارة ذلك اللقاء‪.‬‬
‫وفي اللحظة التي تلشت فيها المسافة واقتربت الشفاه‪ ،‬اقتحمنا هاجس غامض متوحش لم أدر من أين جاء‬
‫بسطوته وقوته وجبروته ليضع بيننا حاج از عنيدا على كف مريم تخفي به خدها الوردى الجميل لتحول دون تحقق لحظة‬
‫النتشاء المقدسة‪ .‬كفها يفصل بين وجهي ووجهها كحد سيف يرتعش بقوة‪ ،‬ويضيق فؤادها بالسر فيتفجر في المسافة‬
‫المتلشية لحن القدر بقوة رعدية تحيل العناق إلى حرب قاسية يتأجج فيها الصراع بين النار والجنة والشياطين والملئكة‬
‫ودانيال والمتطرفين والحرام والحلل والخيانة والمانة ووفيق وعايدة ‪..‬على جبهتين‪ ،‬تحارب إحداهما انتصا ار للحب‬
‫والثانية لدموع الشفق الحزين‪.‬‬
‫ل…‬ ‫‪-‬‬
‫شهقت بها مريم وقد تقطعت أنفاسها النارية المتهدجة في الهوة السحيقة الفاصلة بين وعيها وقلبها‪ ،‬وقد أسفرت الحرب‬
‫عن تمزيق روحها إلى شطرين تفصل بينهما تلك الهوة‪ ،‬ممثلة في الكف المتصلب الحاجز‪ ،‬ومريم عاجزة عن لم شملها‬
‫بينهما‪ ..‬وكان الشارع خاليا من المارة وكان السر حبيس صدرينا وأسلحة الضداد مشهرة في عقلها – وفي عقلي أيضا‬
‫– بعد أن نجح المجهول الغامض في حصارنا داخل عربتها الصغيرة في شارع ضيق بمدينة مزدحمة ودنيا ال واسعة‬
‫بالمروج والصحاري والوديان والغابات والنهار‪.‬‬
‫منعنا ذلك الشيء المجهول من اللقاء على المل‪ .‬حال دون خلوتنا في مكان آمن‪ .‬سلبنا القدرة على الكلم‬
‫الحر‪ .‬أفرغ سما في ضميرنا المتوحد الذي لم يهتد الشر إليه‪ ..‬لتقول لي مريم بعينين دامعتين متوسلتين‪:‬‬
‫ل‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫تقولها بنبرة عذراء‪ ،‬مرتبكة في حيائها الذي أحال روحي إلى رجفة يتنازعها الخوف والرجاء‪ ..‬لماذا يحرم علينا‬
‫الحب‪ ،‬ولماذا تقيد روحانا بالفولذ فأرى على كف مريم – الماثل أمام شفتي كسد من صخر – خطوط القتال وأنهار‬
‫الدماء ومقابر الضحايا والشهداء وصيحات الملوك وهدير الجنود وانهيال الرماح وتساقط الصواريخ وانفجار اللغام وبكاء‬
‫الباء على البناء ثم معاهدات الصلح وعناق الكذب وتوقيعات الزعماء على الوثائق‪ ،‬وتبحث شفتاي المحمومتان عن‬
‫شفتي مريم فل تجدهما‪ ..‬وتبكي مئذنة!‬
‫ل…‬ ‫‪-‬‬
‫إني أحببتك فوق التصور رغم أن المستحيل هو أن يكون أحدنا للخر حتى النهاية‪ .‬إواني أق أر في عينيك ما‬
‫قرأته في عمري من صفحات القرآن والتوراة والنجيل‪ .‬اقتلوني ومزقوا جسدي وبعثروا مزقه في أرجاء الدنيا – أيا ما كنتم‬
‫– فلن تحرموني من قبلة الحبيبة‪.‬‬
‫يا مريم حطمي حصون تذبذبك بين الحب والحقد وأغمضي نجمتيك الشاردتين لنور القمر‪ .‬إني قادر على‬
‫هزيمة شياطين الرض فلقد استحلت فجأة إلى وحش يمسك بكف مريم‪ .‬يزيحها بقوة عن وجهها فتتساقط الشياطين‬
‫كالذباب‪ ،‬ول نامت أعين الجبناء‪ ..‬لكني لم أحتمل أن تلمح عيناي ذلك الفزع الرهيب في عيني حبيبتي‪ ،‬فتراجعت في نبل‬
‫إشفاقا عليها‪ .‬ابتعدت لربت على ظهرها واكتفى بتقبيل يدها‪ ،‬ودموعي متحجرة في عيني‪ ،‬وروحي حبيسة ابتسامة‬
‫الهاجس الخبيثة الظافرة‪..‬‬
‫أحقا أسافر يا مريم وتتركيني وحيدا في مواجهة الكون‪ .‬أحقا لن أراك لجل غير مسمى ورغم ذلك تحول كفك‬
‫بين شفتي وشفتيك حتى ل أقبلك؟!‬
‫انتزعت من روحي بسمة من يرى نه ار من حنانه يسيل من العربة إلى أرض الطريق‪ ..‬وكنت أرى النجوم‬
‫تتساقط أمامي والقمار وأنا عاجز عن التقاطها‪ .‬وحين أدركت أن عمرى القادم لم تكتب صفحته الولى بعد‪ ،‬كان ل بد‬
‫أن نغادر الشارع الذي وصلنا إليه ليعود كل منا إلى جدرانه الربعة حيث عالمه المستقر القديم‪.‬‬
‫***‬

You might also like