1993 أصبح أم ار معتادا أن نبدأ يوم العمل بذهاب أحدنا لمكتب الخآر ليشرب عنده القهوة .نتبادل الحديث معا بشغف متبادل ،فأثرثر معه علي غير عادتي ،حتى أنني قلت له يوما في تلقائية عابرة مفاجئة ندمت عليها: -إنني أصبحت أتكلم معك أكثر مما أتكلم مع زوجي. بهرتني أحاديثه عن رومانسية الدين المسيحي وعن حبه الشديد له وتمنيت من قلبي أن يكون مسيحيا ،بل إنني ألمحت له يوما بذلك لكنه تجاهل تلميحى بذكاء يحسد عليه .فوجئت بأنه يحفظ آيات ل حصر لها من النجيل،ربما أكثر مما أحفظه أنا .تصاعدت اللفة بيننا يوما بعد يوم حتى تبين لي أن هناك عشرات من الفكار تجمع بيننا أكثر مما تفرق، وأن احتياجي إلى الكلم معه أصبح ل يقل عن احتياجه إلى الكلم معي .الفارق بيننا أنه ل يستطيع إخآفاء شعوره بهذا الحتياج ول يريد إخآفاءه ،أما أنا فل أستطيع غير إخآفائه. لحظت تعمقه في فهم طبيعة التكوين النفساني للمرأة القبطية كمسيحية شرقية متحفظة تقدس الزواج وتحترم الزوج باعتباره رأس المرأة – مثلما يحترم قوامة الرجال على النساء – وتعيش معه في السراء والضراء حتى الموت .في البداية كنت أحسب أنه يتودد إلى تملقا لديني حتى أشعر تجاهه بالمان ،ولما سألته: -لماذا تحللون لرجالكم الزواج بمسيحيات وتحرمون على نسائكم الزواج بمسيحيين؟ فوجئت به يجيبني بابتسامة كلها مودة خآالصة وكأنه يعتذر لي قائل: -لن المسلم يعترف بالديان السابقة على السلم وبذلك تكون زوجته الكتابية آمنة على دينها معه لو شاءت الحتفاظ به ،أما المسيحي فإنه ل يعترف بالسلم وبذلك ل يمكن أن نزوجه بمسلمة لنها لن تكون آمنة على دينها معه. ولما تكاثرت حوادث العنف والرهاب ضد أقباط الصعيد وجدته حزينا مكتئبا آسفا وكأنه المسئول عما يحدث، وقد عهدت فيه دائما حرصه الشديد على تجنب الحديث عن كارثة دانيال ولو بمجرد الشارة إليها حتى ل يثير آلمي. كان خآوفه على البلد شديدا وغالبا ما ردد قوله واضحا: -أخآشى م أخآشاه أن يستولى هؤلء المتطرفون على الحكم لنهم ل يمثلون السلم في شيء!.. وكأنه يعزينى بأدب وحساسية فى أخآى!. هكذا اطمأن قلبي إلى صدقه ،لكن دم دانيال لم يكن يسمح لتلك الطمأنينة أن تغزو قلبي أبدا ،أما كراهيتي العنيفة للجثث الملقاة في البئر فل بد أن تفقد يوما تأثيرها السام على مشاعري ..واللعنة على كل الفلسفات المادية التي حشا بها الغرب دماغي ،فوضعت مواصفات قياسية لكيان الرجل الذي سأخآتاره ليعيش معي مدى الحياة ،تبين لي أنها خآاطئة .هذا الكيان يحمل روحا لم أضعها في حسباني ،فكان أن فزعت إلى البحر ولم تشفع لي البراجماتية ول التحليلية ول الوجودية عنده حين مزق آدميتي كذئب مسعور إلى قطع من اللحم والعظم والغضاريف فتصاعدت روحي ولم تعدني أبدا ..ورغم ذلك عاشرته دون أن يعرف قلبي في تلك المعاشرة ارتعاشة الحب مرة واحدة. إن الرب عادل رحيم ،ولسوف يغفر لي خآطاياي ويقدرني على أن أغفر لوفيق خآطيئته معي وهو زوجي ،إوال فليقذف بنا الرب معا إلى الجحيم ،إواذا كان صحيحا أن الحذر يؤتي من مكمنه ،فإنني أصبحت أتوق بشدة إلى فتح باب صغير من بوابات قلعتي حتى يدخآله حليم بكامل إرادتي ووعيي وتحفظى ،حتى ل تصعقه محاذير جنتي التي ل يعرف عنها شيئا لو أدخآلته من أوسع أبوابها ..وحتى ل أندم يوما على تسليم عقلي لقلبي يفعل به ما يشاء. بالمس رجوته أن يكتب لي معب ار عن أعماق مشاعره تجاهي فقد عشقت كلماته الرقيقة وخآيل إلى أنني تمنيت في لحظة أن أفديه بحياتي ..ذلك الرجل الذي أحبني. ما أروعه حين يكتب لي: " إنني متنازل عن حاجتي للبي حاجتك .أريد أن تذوقي طعم حلوة الحب ودهشته وروعته وفرحته وقوته ونضارته ..حين أقف خآلف نافذتي أمام المقابر وألمحك ،فأفتحها على مصراعيها حتى أتنسم هوى رؤيتك من على البعد المتاح ،وأتمنى أن ألوح لك بيدي ول أريد منك أو من أيامي القادمة أكثر من ذلك .إن حبي لك مسئولية رهيبة أتحملها بعمري .إني أكرر لك الدعوة يا عصفورتي الخآضراء أن منتهى أملي أن ينبض قلب كل منا بحب الخآر ،وأن تمتزج أنفاسنا معا بحب الناس والكون والحياة ،فتملؤنا الفرحة ويغمرنا الحبور في المل بأيام سعيد مقبلة". *** أهو تعاسة الحظ أم أنه تخآطيط القدر؟ ..إني أتعجب كيف تحدث معظم الشياء في هذه الحياة بطريقة مفاجئة، وأتساءل دوما عن الحكمة في ذلك ،وغالبا ما أستسلم لعبث القدار .فجأة وخآلل ساعات قلئل أصبح أم ار واقعا يتحدث عنه الجميع ببساطة :حليم نقل بغير سبب معروف إلى القصر. 1988 من أغرب غرائب هذه الحياة الدنيا والتي ل تتاح معرفتها إل لمن يفهمها حق الفهم ،هو حتمية الستسلم أحيانا لعبث القدار ،والغرب من ذلك هو أن يسفر ذلك الستسلم عن انتصارات رائعة رغم آثاره الدامية المفجعة. حين استقبلني على الفيتوري بمكتبه بالجامعة المريكية لينتدبني للتدريس عاما جديدا – قابل للتجديد لمدة أربع سنوات – فوجئت بوجهه المصري السمر .كان في عمر أبي أو يقل عنه قليل .منحني ابتسامة صفراء ودعاني للجلوس على المقعد المواجه لمكتبه .حدثني قليل عن ابن له يمتلك مصنعا للبلستيك بالسكندرية وآخآر بالقاهرة. تعجب من إصراري على البقاء في أمريكا لفترة أطول أو لطول فترة ممكنة ،واندهش لتشبثي برغبتي .فجأة قال لي وهو يتفحصني بعمق شديد: إن أمريكا تفتقر إلى الصدور الشرقية الساخآنة. - لم أعلق .ابتلعت ريقي عندما شعرت بأنني عدت في لحظة إلى مصر التي هربت منها .أصدر أم ار هادئا واثقا: تعالي. - إلى أين؟ - هنا بجوارى. - قمت على الفور بثبات إلى جانبه ،أقاوم انتفاضات جسدي وارتعاشاته الفزعة ..كرر أمره الهادئ الواثق: إجلسي. - أين؟ - على حجري. - جلست على حجره بعقلي الذي كاد التفكير المجرد أن يلهبه .فك ز ار واحدا من القميص وأخآذ يعبث بصدري بيد مرتعشة في البداية ،مجنونة في النهاية ،ولم أستطع أن أبدي تجاهه أدنى اعتراض. أعاد أمره الهادئ الواثق مرة ثالثة: انزلي. - نزلت عائدة إلى مقعدي ،وكنت أريد أن أصرخ مستنجدة بالعذراء من هذا الكابوس الجهنمي ،فلم أتمكن من ضبط أنفاسي رغم رغبتي العنيدة في ذلك .لكني سألته بنفس هدوئه بعد أن نجحت في التماسك: لماذا فعلت ذلك؟ - كنت أقيس درجة حرارة صدرك. - لماذا؟ - لنها مسوغات انتدابك يا عزيزتي والتي سأنهيها بيدي. - وقع على بعض الوراق وطلب مني أن أمر عليه غدا في نفس الموعد لستلم بقية أوراقي كاملة. 1993 ..آه يا حليم ..ليتك ل تشتهيني مثل هؤلء الكلب ..لو لم تشتهني سأسلمك روحي وقلبي وأفديك بعمري، ولتفعل بي حينئذ ما تشاء ،فأنا على يقين الن من أنني أحبك .أحبك يا معجزة حياتي ومستحيلها. ***