You are on page 1of 3

‫)‪( 21‬‬

‫مريم عبد الشهيد‬


‫‪1993‬‬
‫أصبح أم ار معتادا أن نبدأ يوم العمل بذهاب أحدنا لمكتب الخآر ليشرب عنده القهوة‪ .‬نتبادل الحديث معا بشغف‬
‫متبادل‪ ،‬فأثرثر معه علي غير عادتي‪ ،‬حتى أنني قلت له يوما في تلقائية عابرة مفاجئة ندمت عليها‪:‬‬
‫‪-‬إنني أصبحت أتكلم معك أكثر مما أتكلم مع زوجي‪.‬‬
‫بهرتني أحاديثه عن رومانسية الدين المسيحي وعن حبه الشديد له وتمنيت من قلبي أن يكون مسيحيا‪ ،‬بل إنني ألمحت‬
‫له يوما بذلك لكنه تجاهل تلميحى بذكاء يحسد عليه‪ .‬فوجئت بأنه يحفظ آيات ل حصر لها من النجيل‪،‬ربما أكثر مما‬
‫أحفظه أنا‪ .‬تصاعدت اللفة بيننا يوما بعد يوم حتى تبين لي أن هناك عشرات من الفكار تجمع بيننا أكثر مما تفرق‪،‬‬
‫وأن احتياجي إلى الكلم معه أصبح ل يقل عن احتياجه إلى الكلم معي‪ .‬الفارق بيننا أنه ل يستطيع إخآفاء شعوره بهذا‬
‫الحتياج ول يريد إخآفاءه‪ ،‬أما أنا فل أستطيع غير إخآفائه‪.‬‬
‫لحظت تعمقه في فهم طبيعة التكوين النفساني للمرأة القبطية كمسيحية شرقية متحفظة تقدس الزواج وتحترم‬
‫الزوج باعتباره رأس المرأة – مثلما يحترم قوامة الرجال على النساء – وتعيش معه في السراء والضراء حتى الموت‪ .‬في‬
‫البداية كنت أحسب أنه يتودد إلى تملقا لديني حتى أشعر تجاهه بالمان‪ ،‬ولما سألته‪:‬‬
‫‪-‬لماذا تحللون لرجالكم الزواج بمسيحيات وتحرمون على نسائكم الزواج بمسيحيين؟‬
‫فوجئت به يجيبني بابتسامة كلها مودة خآالصة وكأنه يعتذر لي قائل‪:‬‬
‫‪-‬لن المسلم يعترف بالديان السابقة على السلم وبذلك تكون زوجته الكتابية آمنة على دينها معه لو شاءت‬
‫الحتفاظ به‪ ،‬أما المسيحي فإنه ل يعترف بالسلم وبذلك ل يمكن أن نزوجه بمسلمة لنها لن تكون آمنة على دينها‬
‫معه‪.‬‬
‫ولما تكاثرت حوادث العنف والرهاب ضد أقباط الصعيد وجدته حزينا مكتئبا آسفا وكأنه المسئول عما يحدث‪،‬‬
‫وقد عهدت فيه دائما حرصه الشديد على تجنب الحديث عن كارثة دانيال ولو بمجرد الشارة إليها حتى ل يثير آلمي‪.‬‬
‫كان خآوفه على البلد شديدا وغالبا ما ردد قوله واضحا‪:‬‬
‫‪-‬أخآشى م أخآشاه أن يستولى هؤلء المتطرفون على الحكم لنهم ل يمثلون السلم في شيء!‪..‬‬
‫وكأنه يعزينى بأدب وحساسية فى أخآى‪!.‬‬
‫هكذا اطمأن قلبي إلى صدقه‪ ،‬لكن دم دانيال لم يكن يسمح لتلك الطمأنينة أن تغزو قلبي أبدا‪ ،‬أما كراهيتي العنيفة‬
‫للجثث الملقاة في البئر فل بد أن تفقد يوما تأثيرها السام على مشاعري‪ ..‬واللعنة على كل الفلسفات المادية التي حشا‬
‫بها الغرب دماغي‪ ،‬فوضعت مواصفات قياسية لكيان الرجل الذي سأخآتاره ليعيش معي مدى الحياة‪ ،‬تبين لي أنها‬
‫خآاطئة‪ .‬هذا الكيان يحمل روحا لم أضعها في حسباني‪ ،‬فكان أن فزعت إلى البحر ولم تشفع لي البراجماتية ول التحليلية‬
‫ول الوجودية عنده حين مزق آدميتي كذئب مسعور إلى قطع من اللحم والعظم والغضاريف فتصاعدت روحي ولم تعدني‬
‫أبدا‪ ..‬ورغم ذلك عاشرته دون أن يعرف قلبي في تلك المعاشرة ارتعاشة الحب مرة واحدة‪.‬‬
‫إن الرب عادل رحيم‪ ،‬ولسوف يغفر لي خآطاياي ويقدرني على أن أغفر لوفيق خآطيئته معي وهو زوجي‪ ،‬إوال‬
‫فليقذف بنا الرب معا إلى الجحيم‪ ،‬إواذا كان صحيحا أن الحذر يؤتي من مكمنه‪ ،‬فإنني أصبحت أتوق بشدة إلى فتح باب‬
‫صغير من بوابات قلعتي حتى يدخآله حليم بكامل إرادتي ووعيي وتحفظى ‪ ،‬حتى ل تصعقه محاذير جنتي التي ل يعرف‬
‫عنها شيئا لو أدخآلته من أوسع أبوابها‪ ..‬وحتى ل أندم يوما على تسليم عقلي لقلبي يفعل به ما يشاء‪.‬‬
‫بالمس رجوته أن يكتب لي معب ار عن أعماق مشاعره تجاهي فقد عشقت كلماته الرقيقة وخآيل إلى أنني تمنيت‬
‫في لحظة أن أفديه بحياتي‪ ..‬ذلك الرجل الذي أحبني‪.‬‬
‫ما أروعه حين يكتب لي‪:‬‬
‫" إنني متنازل عن حاجتي للبي حاجتك‪ .‬أريد أن تذوقي طعم حلوة الحب ودهشته وروعته وفرحته وقوته‬
‫ونضارته‪ ..‬حين أقف خآلف نافذتي أمام المقابر وألمحك‪ ،‬فأفتحها على مصراعيها حتى أتنسم هوى رؤيتك من على البعد‬
‫المتاح‪ ،‬وأتمنى أن ألوح لك بيدي ول أريد منك أو من أيامي القادمة أكثر من ذلك‪ .‬إن حبي لك مسئولية رهيبة أتحملها‬
‫بعمري‪ .‬إني أكرر لك الدعوة يا عصفورتي الخآضراء أن منتهى أملي أن ينبض قلب كل منا بحب الخآر‪ ،‬وأن تمتزج‬
‫أنفاسنا معا بحب الناس والكون والحياة‪ ،‬فتملؤنا الفرحة ويغمرنا الحبور في المل بأيام سعيد مقبلة"‪.‬‬
‫***‬
‫أهو تعاسة الحظ أم أنه تخآطيط القدر؟‪ ..‬إني أتعجب كيف تحدث معظم الشياء في هذه الحياة بطريقة مفاجئة‪،‬‬
‫وأتساءل دوما عن الحكمة في ذلك‪ ،‬وغالبا ما أستسلم لعبث القدار‪ .‬فجأة وخآلل ساعات قلئل أصبح أم ار واقعا يتحدث‬
‫عنه الجميع ببساطة‪ :‬حليم نقل بغير سبب معروف إلى القصر‪.‬‬
‫‪1988‬‬
‫من أغرب غرائب هذه الحياة الدنيا والتي ل تتاح معرفتها إل لمن يفهمها حق الفهم‪ ،‬هو حتمية الستسلم‬
‫أحيانا لعبث القدار‪ ،‬والغرب من ذلك هو أن يسفر ذلك الستسلم عن انتصارات رائعة رغم آثاره الدامية المفجعة‪.‬‬
‫حين استقبلني على الفيتوري بمكتبه بالجامعة المريكية لينتدبني للتدريس عاما جديدا – قابل للتجديد لمدة‬
‫أربع سنوات – فوجئت بوجهه المصري السمر‪ .‬كان في عمر أبي أو يقل عنه قليل‪ .‬منحني ابتسامة صفراء ودعاني‬
‫للجلوس على المقعد المواجه لمكتبه‪ .‬حدثني قليل عن ابن له يمتلك مصنعا للبلستيك بالسكندرية وآخآر بالقاهرة‪.‬‬
‫تعجب من إصراري على البقاء في أمريكا لفترة أطول أو لطول فترة ممكنة‪ ،‬واندهش لتشبثي برغبتي‪ .‬فجأة قال لي وهو‬
‫يتفحصني بعمق شديد‪:‬‬
‫إن أمريكا تفتقر إلى الصدور الشرقية الساخآنة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لم أعلق‪ .‬ابتلعت ريقي عندما شعرت بأنني عدت في لحظة إلى مصر التي هربت منها‪ .‬أصدر أم ار هادئا واثقا‪:‬‬
‫تعالي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إلى أين؟‬ ‫‪-‬‬
‫هنا بجوارى‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫قمت على الفور بثبات إلى جانبه‪ ،‬أقاوم انتفاضات جسدي وارتعاشاته الفزعة‪ ..‬كرر أمره الهادئ الواثق‪:‬‬
‫إجلسي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أين؟‬ ‫‪-‬‬
‫على حجري‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫جلست على حجره بعقلي الذي كاد التفكير المجرد أن يلهبه‪ .‬فك ز ار واحدا من القميص وأخآذ يعبث بصدري بيد مرتعشة‬
‫في البداية ‪ ،‬مجنونة في النهاية‪ ،‬ولم أستطع أن أبدي تجاهه أدنى اعتراض‪.‬‬
‫أعاد أمره الهادئ الواثق مرة ثالثة‪:‬‬
‫انزلي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫نزلت عائدة إلى مقعدي‪ ،‬وكنت أريد أن أصرخ مستنجدة بالعذراء من هذا الكابوس الجهنمي‪ ،‬فلم أتمكن من ضبط‬
‫أنفاسي رغم رغبتي العنيدة في ذلك‪ .‬لكني سألته بنفس هدوئه بعد أن نجحت في التماسك‪:‬‬
‫لماذا فعلت ذلك؟‬ ‫‪-‬‬
‫كنت أقيس درجة حرارة صدرك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لماذا؟‬ ‫‪-‬‬
‫لنها مسوغات انتدابك يا عزيزتي والتي سأنهيها بيدي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وقع على بعض الوراق وطلب مني أن أمر عليه غدا في نفس الموعد لستلم بقية أوراقي كاملة‪.‬‬
‫‪1993‬‬
‫‪ ..‬آه يا حليم‪ ..‬ليتك ل تشتهيني مثل هؤلء الكلب‪ ..‬لو لم تشتهني سأسلمك روحي وقلبي وأفديك بعمري‪،‬‬
‫ولتفعل بي حينئذ ما تشاء‪ ،‬فأنا على يقين الن من أنني أحبك‪ .‬أحبك يا معجزة حياتي ومستحيلها‪.‬‬
‫***‬

You might also like