You are on page 1of 5

‫) ‪( 17‬‬

‫عايدة فؤاد‬
‫‪1993‬‬
‫ليس هذا هو حليم الذي أعرفه حينأ يذوب في جسدي ويتوحد معه منذ أول لقاء جسدي جمع بيننا‪ ..‬ولنأ‬
‫جديدا لم يجد على حياته العملية أو المادية – وأنا ملمة بدقائق نبضه وخلجات ضميره الطيب ونواياه البريئة – فإنأ‬
‫هناك امرأة غيري ولو أقسم على الكتب المقدسة جميعا بغير ذلك‪.‬‬
‫لو أحبها حليم فسوف يخلص لها لنه ل يعرف الكذب واللؤم والخيانة وهو الذي علمني الية الكريمة‪ " :‬ما‬
‫جعل ال لرجل منأ قلبينأ في جوفه"‪ ،‬لكنه لنأ يستطيع مواجهتي بالصراحة الباردة التي يواجه بها بعض الرجال زوجاتهم‬
‫حينأ يعترفونأ لهنأ بوقوعهم في تجربة جديدة سواء منأ باب العتذار والندم وطلب العفو والغفرانأ عنأ نزوة طارئة‪ ،‬أو‬
‫منأ باب النية المبيتة على النفصال‪.‬‬
‫وكيف يستطيع مواجهتي بطعنة في القلب الذي احتضنه واحتواه وأدفأه كل هذا العمر‪ ،‬وكيف – أيضا –‬
‫تطاوعه روحه أنأ يخفي الخنجر وراء ظهره فتكونأ الطعنة منأ الخلف وهي أقسى وأبشع وأقتل؟‪ ..‬هاهو يجلس أمامي‬
‫شاردا كالطفل الذي ارتكب حماقة ويخشى أنأ تكتشف أمه المر‪.‬‬
‫إني ل أستطيع أنأ أتصور حليم وهو يضم امرأة غيري إلى صدره القوى الحنونأ‪ ،‬فهذا هو الظلم بعينه‪ ،‬وأنا ل‬
‫أستحق أنأ يظلمني إذ عدلت معه العمر كله‪.‬‬
‫ل أستطيع أنأ أتصور ذلك المتزاج المقدس بينأ نفسينأ وقد استحال إلى شهوة داعرة ل تلبث أنأ تزول‪ ..‬ولو‬
‫كانأ بإمكاني لصرخت في وجهه بأنأ يسارع في العودة إلىى قبل أنأ تأخذه مني لما ترددت‪.‬‬
‫إني واثقة أنه لنأ يصمد طويل أمامي فلماذا أضع نفسي ذلك الموضع المستجدي الضعيف؟‪ ..‬وحتى يجيء‬
‫الوانأ فل مفر منأ السعي وراء الحقيقة رغم ثقتي المفرطة في حدسي الفطري‪.‬‬
‫ولكنأ كيف أصل إلى تلك الحقيقة والنار مشتعلة في صدري‪ ،‬يحرق القلب لهيبها ويحجب العقل دخانها السود‬
‫وتعجز مياه أنهار الدنيا وبحارها أنأ تطفئها؟!‪ ..‬هل أتعقبه أم أستأجر شرطيا خصوصيا كما تفعل النساء الوربيات؟‪ ..‬يا‬
‫إلهي‪ .‬كيف يعقل لرجل أحب زوجته وأحبته وأنجبت له الولد والبنت وفضلته على كثير غيره وصانته في عرضه وماله‬
‫ولم تبخل عليه بعطاء‪ ،‬أنأ يوليها ظهره فجأة ليبدأ مع غيرها حياة عاطفية جديدة بكل هذه البساطة؟‪ ..‬لقد أغدقت عليه‬
‫بكل ما اختزنت في روحي منأ طاقة على الحب والرجاء والمل الحلو‪ ،‬فكنت له عشيقة وزوجة وكنت له صديقة‬
‫وشقيقة‪ ،‬ومع هذا فقد دب الملل والفتور في قلبه ولم يلبث أنأ انتقل إلى جسده‪ .‬ترى ما هي مواصفات تلك المرأة التي‬
‫ألحقت بحياتي هذه الهزيمة النكراء حينأ استطاعت إعطاءه ذلك الشيء المجهول الذي عجزت عنأ التوصل إلى سره‬
‫وعنأ بذله لحبيبي عنأ طيب خاطر‪ .‬لقد رفضت الرجل الذي تقدم للزواج مني قبل حليم لنني رفضت فيه أبوته الزائدة‬
‫بينما كنت أبحث عنأ حب وصداقة وتلقائية وانطلق وحياة كلها شباب‪ ،‬واللعنة على الحكمة وعلى أصحابها‬
‫المتخشبينأ‪ ..‬ترى هل يفتقد حليم في علقته بي شيئا شبيها بذلك الشيء النساني الغامض الذي يقبع دائما في أغوار‬
‫النفس العميقة بحيث ل يسهل إدراكه أو التوصل إليه؟‪ ..‬وما هي قدراتها العقلية والعاطفية التي استوعبته بها فسرقته‬
‫مني في غفلة منأ الزمانأ؟‬
‫***‬
‫بعد منتصف ليلة هادئة ذهبنا إلى الفراش‪ .‬كيف يستطيع هذا المخلوق أنأ يقبل يدها ويضع شفتيه على‬
‫شفتيها ويلتصق لحمه بلحمها؟‪ ..‬إواذا كانأ قد استطاع ذلك فهل أستطيع أنا الخرى أنأ أفعل مثله ولو انطبقت السماء‬
‫على الرض؟‪ ..‬نظرت بعمق في عينيه المنكسرتينأ‪ .‬منأ المستحيل أنأ يستشعر معها دقائق و رقائق لحظات النشوة‬
‫الحبيبة الحيية العميقة الحميمية المسكرة التي عشناها في شبابنا حينأ كنا ننصهر في جسد واحد‪ ،‬فتلك مشاعر ل‬
‫يسمح الزمنأ بتكرارها‪ .‬هأنذا أبذل نفسي لك أيها الطفل الطيب العنيد الذي سرق منى فجأة‪ .‬إنه امتحانأ إجباري عليك أنأ‬
‫تفشل فيه عنأ جدارة لتثبت لي صدق حدسي‪ ..‬وها أنت جثة هامدة بينأ ذراعي العطوفتينأ عليك منذ التقينا أول مرة‪..‬‬
‫أتكونأ فرحتك بها كفرحتك الولى بي فتتساوى كل الشياء وتستحيل إلى عبث ل يحتمل‪ ،‬وتتجرد كل القيم الجميلة منأ‬
‫معانيها دونأ أنأ يدري أحدنا ما السبب في ذلك؟‬
‫لو اقتضى المر أنأ أقتلك فربما ل أتردد طويل‪ .‬لنأ تعوزني فرصة أقتنصها في يسر لتخلص منأ وجودك أبها‬
‫الحبيب‪ ،‬إوانما سوف أنتظر حلول لحظة الرادة ولنأ أتأخر ثانية واحدة‪ .‬لكنأ هذه اللحظة لنأ تأتي أبدا فأنا الكائنأ الوحيد‬
‫على الرض الذي يعرف هذا‪ ..‬تلك لحظة شيطانية ينفصل فيها آدم وحواء عنأ الزمانأ والمكانأ والجنة والرض والسباب‬
‫والثواب والعقاب ليكمل أيهما بحمقه دائرة العبث‪ ..‬قم وارتد ملبسك أيها المخادع الصادق فقلد صدقت نبوءتي!‬
‫دبرت الخطة بأقصى سرعة ممكنة – بالتفاق مع صديقة حميمة أعارتني مفتاح فيلتها – مستعينة بمحمد‬
‫وفاطمة كانا دائما الشكوى منأ الفراغ وانتظار قرار التعيينأ ومنأ قلق خطيبة محمد لعدم حيازته شقة وتعجل خطيب‬
‫فاطمة للزواج بما يتعارض مع إمكاناتنا كموظف بدرجة مدير متحف ومهندسة بدرجة رئيس قسم‪.‬‬
‫تلك أشياء لم تكنأ تزعجني بالمرة – مثلما تزعج حليم وتؤرقه أحيانا فالولد والبنت قد تربيا على الثقافة والوعي‬
‫والفكر الراقي‪ ،‬والصداقة الحميمة بينهما منأ جهة وبينأ كل منهما وأبويه منأ جهة أخرى‪ ،‬مع جذور دينية تأصلت في‬
‫نشأتهما – لهذا فأنا لست قلقة بالمرة على مستقبل أي منهما‪ ..‬الولد سيعثر على شقة بوسيلة ما ويتزوج‪ ،‬وحليم وأنا‬
‫سندبر كل طلبات فاطمة بكل السبل المتاحة‪ ،‬كالجمعيات والقساط والقروض وخلفه‪ ،‬لماذا أخاف إذنأ ومدبر المر‬
‫كريم؟!‬
‫في لحظات كانت عربتنا الصغيرة مجهزة بالساندويتشات وقد تم إخفاء الطبلة والكمانأ في الحقيبة الخلفية‪ ..‬ولم‬
‫يدر حليم بنفسه إل والعربة تجتاز به الطريق الصحراوي – بقيادتي – والولد والبنت يديرانأ شرائط الغاني الحديثة‬
‫الراقصة ويصفقانأ في سعادة‪ ،‬حتى فوجئ حليم بالعربة تتوقف أمام فيل فاخرة في ضاحية متطرفة منأ شاطئ غير‬
‫مطروق يبعد عنأ العجمي بعدة كيلومترات‪.‬‬
‫افترشنا الخلء الصحراوي الرائع أمام مدخل الفيل وظهرت الطبلة والكمانأ‪ .‬بدأت فاطمة تعزف ومحمد يطبل‬
‫على إيقاع أغنية يحبها حليم اتفقا عليها منأ قبل‪ ،‬وأجلست حليم على مقعد عتيق الطراز أسميته بكرسي العرش وقلت‬
‫له‪:‬‬
‫‪-‬النأ‪ ..‬أجلس يا ملك‪.‬‬
‫وجلس حليم‪ ..‬ورقصت له على موسيقى ابننا وابنتنا‪ ..‬وبينما أرقص‪ ،‬كنت أرقب في قاع عينيه فرحة العمر بما تبذله‬
‫أسرته منأ حب وبهجة لسعاده‪ ،‬ولكنأ كانأ هناك شيء خفي لم يزل!‬
‫***‬
‫قال أخي بثقة متناهية‪:‬‬
‫أقسم أنأ زوجك ل غبار عليه يا عايدة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مستحيل‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إنأ بعض الظنأ إثم‪ .‬استغفري ال فقد ظلمت الرجل‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لعل رجالك لم يتعقبوه جيدا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لقد أرسلت في أثره أكفأ رجالي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫حليم على علقة بامرأة يا شاذلي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ماذا تريدينأ منه أكثر منأ انضباطه في مواعيد العمل والعودة إلى المنزل وبراءة كل اتصالته التليفونية‬ ‫‪-‬‬
‫والبريدية؟!!‬
‫أريد أنأ أعرف أينأ يلتقي بها؟‬ ‫‪-‬‬
‫إنه ل يغادر المتحف إل إلى بيتك يا عايدة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ل بد أنها إحدى زميلته‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫زميلته ثلث وأنت تعرفينهنأ جميعا‪ .‬اثنتانأ في عمر أبنائك والثالثة حيزبونأ متصابية انتدبت منذ فترة للعمل‬ ‫‪-‬‬
‫بالمتحف وهو خير مكانأ تصلح – في رأيي – للعمل به‪.‬‬
‫سوف تثبت لك اليام صدق ظني‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الظنأ ل يكفي‪ .‬أعطيني الدليل المادي وأنا أوقفه عند حده‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أي دليل مادي أقدمه لك يا سيادة العميد أقوى منأ أنفاس جسده الخائرة ونظرات عينيه المنكسرة وعودته إلى‬
‫دواوينأ الشعر التي ظلت غارقة في ترابها بعد أنأ كف عنأ قراءتها لي منذ سنوات طوال‪ ..‬أي دليل أقوى منأ التماع‬
‫عينيه بدموع حبيسة صامته أراها بعيني قلبي وهو يستمع إلى إحدى أغاني أم كلثوم التي نسيناها في غمرة ذوباننا في‬
‫شئونأ الولد‪ .‬ل مفر منأ أنأ أقسو عليك يا طفلي الحبيب‪ ،‬فاغفر لي جبروتي وبطشي لني بقدر ضعفي وليونتي أحبك‪،‬‬
‫ولني لنأ أغفر لك سقطتك ما حييت‪ ،‬رغم أني مازلت مشفقة عليك حتى هذه اللحظة‪ .‬أرثى لك وقد ابتليت بداء ل دواء‬
‫له في مثل عمرك‪ .‬ل بد أنها تصغرني بعشرة أعوام على القل‪ .‬ول بد أنك تستعيد معها حديث عمك جبريل الذي يحلو‬
‫لك أنأ تصفه بالغباء والذي حذرك منأ الزواج مني وأنا التي أكبرك بعامينأ‪.‬‬
‫بيدك أنأ تنتزع منه الدليل‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫كيف؟‬ ‫‪-‬‬
‫بالقوة!‬ ‫‪-‬‬
‫ما أسهل اعتقاله لو كانأ هذا يسعدك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ل تتردد في إلصاق تهمة سياسية به حتى يعترف بها‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫بأية تهمة؟‬ ‫‪-‬‬
‫بالمرأة طبعا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫يالقسوة النساء‪ .‬عندي فكرة أرجح‪ ،‬فالعتقال لنأ يحقق الغرض‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ما هي؟‬ ‫‪-‬‬
‫ننقله بصفة وقتية إلى أقاصي الصعيد حيث تكثر المتاحف والثار‪ ،‬فإذ أضناه البعد عنأ حبيبته التي تعشش‬ ‫‪-‬‬
‫في عناكب رأسك‪ ،‬فلسوف يتجه أول ما يتجه إليها في أقرب فرصة نتيحها له حتى يتحرك تحت رايتنا‪.‬‬
‫***‬

You might also like