Professional Documents
Culture Documents
عايدة فؤاد
1993
ليس هذا هو حليم الذي أعرفه حينأ يذوب في جسدي ويتوحد معه منذ أول لقاء جسدي جمع بيننا ..ولنأ
جديدا لم يجد على حياته العملية أو المادية – وأنا ملمة بدقائق نبضه وخلجات ضميره الطيب ونواياه البريئة – فإنأ
هناك امرأة غيري ولو أقسم على الكتب المقدسة جميعا بغير ذلك.
لو أحبها حليم فسوف يخلص لها لنه ل يعرف الكذب واللؤم والخيانة وهو الذي علمني الية الكريمة " :ما
جعل ال لرجل منأ قلبينأ في جوفه" ،لكنه لنأ يستطيع مواجهتي بالصراحة الباردة التي يواجه بها بعض الرجال زوجاتهم
حينأ يعترفونأ لهنأ بوقوعهم في تجربة جديدة سواء منأ باب العتذار والندم وطلب العفو والغفرانأ عنأ نزوة طارئة ،أو
منأ باب النية المبيتة على النفصال.
وكيف يستطيع مواجهتي بطعنة في القلب الذي احتضنه واحتواه وأدفأه كل هذا العمر ،وكيف – أيضا –
تطاوعه روحه أنأ يخفي الخنجر وراء ظهره فتكونأ الطعنة منأ الخلف وهي أقسى وأبشع وأقتل؟ ..هاهو يجلس أمامي
شاردا كالطفل الذي ارتكب حماقة ويخشى أنأ تكتشف أمه المر.
إني ل أستطيع أنأ أتصور حليم وهو يضم امرأة غيري إلى صدره القوى الحنونأ ،فهذا هو الظلم بعينه ،وأنا ل
أستحق أنأ يظلمني إذ عدلت معه العمر كله.
ل أستطيع أنأ أتصور ذلك المتزاج المقدس بينأ نفسينأ وقد استحال إلى شهوة داعرة ل تلبث أنأ تزول ..ولو
كانأ بإمكاني لصرخت في وجهه بأنأ يسارع في العودة إلىى قبل أنأ تأخذه مني لما ترددت.
إني واثقة أنه لنأ يصمد طويل أمامي فلماذا أضع نفسي ذلك الموضع المستجدي الضعيف؟ ..وحتى يجيء
الوانأ فل مفر منأ السعي وراء الحقيقة رغم ثقتي المفرطة في حدسي الفطري.
ولكنأ كيف أصل إلى تلك الحقيقة والنار مشتعلة في صدري ،يحرق القلب لهيبها ويحجب العقل دخانها السود
وتعجز مياه أنهار الدنيا وبحارها أنأ تطفئها؟! ..هل أتعقبه أم أستأجر شرطيا خصوصيا كما تفعل النساء الوربيات؟ ..يا
إلهي .كيف يعقل لرجل أحب زوجته وأحبته وأنجبت له الولد والبنت وفضلته على كثير غيره وصانته في عرضه وماله
ولم تبخل عليه بعطاء ،أنأ يوليها ظهره فجأة ليبدأ مع غيرها حياة عاطفية جديدة بكل هذه البساطة؟ ..لقد أغدقت عليه
بكل ما اختزنت في روحي منأ طاقة على الحب والرجاء والمل الحلو ،فكنت له عشيقة وزوجة وكنت له صديقة
وشقيقة ،ومع هذا فقد دب الملل والفتور في قلبه ولم يلبث أنأ انتقل إلى جسده .ترى ما هي مواصفات تلك المرأة التي
ألحقت بحياتي هذه الهزيمة النكراء حينأ استطاعت إعطاءه ذلك الشيء المجهول الذي عجزت عنأ التوصل إلى سره
وعنأ بذله لحبيبي عنأ طيب خاطر .لقد رفضت الرجل الذي تقدم للزواج مني قبل حليم لنني رفضت فيه أبوته الزائدة
بينما كنت أبحث عنأ حب وصداقة وتلقائية وانطلق وحياة كلها شباب ،واللعنة على الحكمة وعلى أصحابها
المتخشبينأ ..ترى هل يفتقد حليم في علقته بي شيئا شبيها بذلك الشيء النساني الغامض الذي يقبع دائما في أغوار
النفس العميقة بحيث ل يسهل إدراكه أو التوصل إليه؟ ..وما هي قدراتها العقلية والعاطفية التي استوعبته بها فسرقته
مني في غفلة منأ الزمانأ؟
***
بعد منتصف ليلة هادئة ذهبنا إلى الفراش .كيف يستطيع هذا المخلوق أنأ يقبل يدها ويضع شفتيه على
شفتيها ويلتصق لحمه بلحمها؟ ..إواذا كانأ قد استطاع ذلك فهل أستطيع أنا الخرى أنأ أفعل مثله ولو انطبقت السماء
على الرض؟ ..نظرت بعمق في عينيه المنكسرتينأ .منأ المستحيل أنأ يستشعر معها دقائق و رقائق لحظات النشوة
الحبيبة الحيية العميقة الحميمية المسكرة التي عشناها في شبابنا حينأ كنا ننصهر في جسد واحد ،فتلك مشاعر ل
يسمح الزمنأ بتكرارها .هأنذا أبذل نفسي لك أيها الطفل الطيب العنيد الذي سرق منى فجأة .إنه امتحانأ إجباري عليك أنأ
تفشل فيه عنأ جدارة لتثبت لي صدق حدسي ..وها أنت جثة هامدة بينأ ذراعي العطوفتينأ عليك منذ التقينا أول مرة..
أتكونأ فرحتك بها كفرحتك الولى بي فتتساوى كل الشياء وتستحيل إلى عبث ل يحتمل ،وتتجرد كل القيم الجميلة منأ
معانيها دونأ أنأ يدري أحدنا ما السبب في ذلك؟
لو اقتضى المر أنأ أقتلك فربما ل أتردد طويل .لنأ تعوزني فرصة أقتنصها في يسر لتخلص منأ وجودك أبها
الحبيب ،إوانما سوف أنتظر حلول لحظة الرادة ولنأ أتأخر ثانية واحدة .لكنأ هذه اللحظة لنأ تأتي أبدا فأنا الكائنأ الوحيد
على الرض الذي يعرف هذا ..تلك لحظة شيطانية ينفصل فيها آدم وحواء عنأ الزمانأ والمكانأ والجنة والرض والسباب
والثواب والعقاب ليكمل أيهما بحمقه دائرة العبث ..قم وارتد ملبسك أيها المخادع الصادق فقلد صدقت نبوءتي!
دبرت الخطة بأقصى سرعة ممكنة – بالتفاق مع صديقة حميمة أعارتني مفتاح فيلتها – مستعينة بمحمد
وفاطمة كانا دائما الشكوى منأ الفراغ وانتظار قرار التعيينأ ومنأ قلق خطيبة محمد لعدم حيازته شقة وتعجل خطيب
فاطمة للزواج بما يتعارض مع إمكاناتنا كموظف بدرجة مدير متحف ومهندسة بدرجة رئيس قسم.
تلك أشياء لم تكنأ تزعجني بالمرة – مثلما تزعج حليم وتؤرقه أحيانا فالولد والبنت قد تربيا على الثقافة والوعي
والفكر الراقي ،والصداقة الحميمة بينهما منأ جهة وبينأ كل منهما وأبويه منأ جهة أخرى ،مع جذور دينية تأصلت في
نشأتهما – لهذا فأنا لست قلقة بالمرة على مستقبل أي منهما ..الولد سيعثر على شقة بوسيلة ما ويتزوج ،وحليم وأنا
سندبر كل طلبات فاطمة بكل السبل المتاحة ،كالجمعيات والقساط والقروض وخلفه ،لماذا أخاف إذنأ ومدبر المر
كريم؟!
في لحظات كانت عربتنا الصغيرة مجهزة بالساندويتشات وقد تم إخفاء الطبلة والكمانأ في الحقيبة الخلفية ..ولم
يدر حليم بنفسه إل والعربة تجتاز به الطريق الصحراوي – بقيادتي – والولد والبنت يديرانأ شرائط الغاني الحديثة
الراقصة ويصفقانأ في سعادة ،حتى فوجئ حليم بالعربة تتوقف أمام فيل فاخرة في ضاحية متطرفة منأ شاطئ غير
مطروق يبعد عنأ العجمي بعدة كيلومترات.
افترشنا الخلء الصحراوي الرائع أمام مدخل الفيل وظهرت الطبلة والكمانأ .بدأت فاطمة تعزف ومحمد يطبل
على إيقاع أغنية يحبها حليم اتفقا عليها منأ قبل ،وأجلست حليم على مقعد عتيق الطراز أسميته بكرسي العرش وقلت
له:
-النأ ..أجلس يا ملك.
وجلس حليم ..ورقصت له على موسيقى ابننا وابنتنا ..وبينما أرقص ،كنت أرقب في قاع عينيه فرحة العمر بما تبذله
أسرته منأ حب وبهجة لسعاده ،ولكنأ كانأ هناك شيء خفي لم يزل!
***
قال أخي بثقة متناهية:
أقسم أنأ زوجك ل غبار عليه يا عايدة. -
مستحيل. -
إنأ بعض الظنأ إثم .استغفري ال فقد ظلمت الرجل. -
لعل رجالك لم يتعقبوه جيدا. -
لقد أرسلت في أثره أكفأ رجالي. -
حليم على علقة بامرأة يا شاذلي. -
ماذا تريدينأ منه أكثر منأ انضباطه في مواعيد العمل والعودة إلى المنزل وبراءة كل اتصالته التليفونية -
والبريدية؟!!
أريد أنأ أعرف أينأ يلتقي بها؟ -
إنه ل يغادر المتحف إل إلى بيتك يا عايدة. -
ل بد أنها إحدى زميلته. -
زميلته ثلث وأنت تعرفينهنأ جميعا .اثنتانأ في عمر أبنائك والثالثة حيزبونأ متصابية انتدبت منذ فترة للعمل -
بالمتحف وهو خير مكانأ تصلح – في رأيي – للعمل به.
سوف تثبت لك اليام صدق ظني. -
الظنأ ل يكفي .أعطيني الدليل المادي وأنا أوقفه عند حده. -
أي دليل مادي أقدمه لك يا سيادة العميد أقوى منأ أنفاس جسده الخائرة ونظرات عينيه المنكسرة وعودته إلى
دواوينأ الشعر التي ظلت غارقة في ترابها بعد أنأ كف عنأ قراءتها لي منذ سنوات طوال ..أي دليل أقوى منأ التماع
عينيه بدموع حبيسة صامته أراها بعيني قلبي وهو يستمع إلى إحدى أغاني أم كلثوم التي نسيناها في غمرة ذوباننا في
شئونأ الولد .ل مفر منأ أنأ أقسو عليك يا طفلي الحبيب ،فاغفر لي جبروتي وبطشي لني بقدر ضعفي وليونتي أحبك،
ولني لنأ أغفر لك سقطتك ما حييت ،رغم أني مازلت مشفقة عليك حتى هذه اللحظة .أرثى لك وقد ابتليت بداء ل دواء
له في مثل عمرك .ل بد أنها تصغرني بعشرة أعوام على القل .ول بد أنك تستعيد معها حديث عمك جبريل الذي يحلو
لك أنأ تصفه بالغباء والذي حذرك منأ الزواج مني وأنا التي أكبرك بعامينأ.
بيدك أنأ تنتزع منه الدليل. -
كيف؟ -
بالقوة! -
ما أسهل اعتقاله لو كانأ هذا يسعدك. -
ل تتردد في إلصاق تهمة سياسية به حتى يعترف بها. -
بأية تهمة؟ -
بالمرأة طبعا. -
يالقسوة النساء .عندي فكرة أرجح ،فالعتقال لنأ يحقق الغرض. -
ما هي؟ -
ننقله بصفة وقتية إلى أقاصي الصعيد حيث تكثر المتاحف والثار ،فإذ أضناه البعد عنأ حبيبته التي تعشش -
في عناكب رأسك ،فلسوف يتجه أول ما يتجه إليها في أقرب فرصة نتيحها له حتى يتحرك تحت رايتنا.
***