Professional Documents
Culture Documents
حليم صادق
1992
سلمتها رسالتي لحظة النصراف من العمل لقأطع الطريق على نظرة دهشة أو كلمة تساؤل ،ثم أمضيت ده ار
في انتظار الصباح متحديا منحني الحياة الخآذ في الهبوط ،والذي كنت على ثقة من أنه لن يحد من سرعته إل وقأوع
عيني مريم على كلماتي.
فوجئت بها تطرق باب مكتبي .حاصرت فرحتي وارتباكي وخآوفي ويأسي فلم أنطق حرفا .حيتني ووقأفت تتأمل
الورد أمام النافذة ومصيري معلق بشفتيها اللتين قأهرتا الزمن وأبقيتا دماءه القرمزية في لونهما الوردي المتفجر بالحياة.
رأيت المل في الخآطوط الرقأيقة المتشابكة تحت عينيها المشعتين ببريق الشباب ،فهدأت ضربات قألبي قأليل ..وكان
الحصن منيعا ل تهزه أعتى الزلزل ..طهو ار ل يعرف الدنس طريقا إليه .أبوابه الفولذية نظرات غامضة منذرة يعجز
السحرة عن فك طلسمها السرمدية .يعصمني من الكلم عجزي عنه ولكن متى تكف عن قأسوتها الصامتة فتتكلم؟
هذه الشجيرة مكتوب عليها أل تثمر. -
خآيل إلى أنها تبلغني ردها الموجز على رسالتي .أصابت قألبي بطعنة لكنها لم تكن قأاتلة لني مدرك لروعة نبوءتها
الحكيمة ،فما الذي يرجي من علقأة تجمع ما بيننا بما يتجاوز حدود الزمالة غير حب عاجز مشوه لن يكتب له قأرب ول
وصل ول توحد ،ولن يعرف الطمأنينة والبهجة والرتواء والنمو؟!
قألت متسائل وكأني أقأاتل دفاعا عن بقية عمري:
أكل هذه الخآضرة ل تكفي؟ -
وكأنها لم تق أر حرفا مما كتبت لها ..قأالت بثقة:
إن نموها محدود بقاع الصندوق الذي لن يسمح لجذورها بالمتداد. -
ل الدين السلمي ول الدين المسيحي ول الشرع ول المجتمع سوف يسمح لنا أن نعيش تجربة حب معا .اندفعت
بجيوشي مسلحا بغريزة البقاء:
-تكفيني بهجة اخآضرارها فأنا ل أطمع في أن تثمر أو أجني منها الفاكهة.
كان منتهى أملي أن يفتح كل منا صدره وقألبه للخآر ،ولست أدري لماذا أو كيف أو من أين جاء هذا المل،
وأنا لم أكن أشتهيها كامرأة رغم أنها لم تفقد بعد أنوثتها ،بل إنها أكثر فتنة وحيوية من حسناء على مشارف الثلثين.
كان واضحا أنها أحصت أسلحتي كما وكيفا حين حاصرتني بالصمت وأبقت سرها خآافيا ل تريد أن تبوح به.
غادرت المكتب فجأة فاستطعت أن أتنفس في يسر ولكني تعجبت لماذا لم أصرح لها بأنني – بعد انقضاء كل هذا العمر
– أحببتها فجأة وبقوة؟!
لم أجرؤ على رفع سماعة التليفون لكمل معها حديثنا المبتور .خآطر ببالي أن أطلب عايدة بدل منها لقأول
لها إن المستحيل قأد حدث فقد أحببت من بعدها امرأة أخآرى تكبرها في السن ..لم أجرؤ أيضا على ذلك.
حينئذ عرفت أنني يجب أن أكذب – لول مرة في حياتي – وأن أتعايش مع أكذوبتي حتى النهاية ،فأخآاف
وأشعر بالذنب وأضعف وأتردد ويهتز احترامي لذاتي وأتألم وأحزن وأمرض ويخآتل توازن ملكاتي الوجدانية التي يقوم عليه
عصب حياتي.
أسلمت قأيادة أفكاري لقدمي فلم أشعر بغروب الشمس إل حين وجدت نفسي جالسا إلى مائدة بأحد الكازينوهات
المطلة على البحر والذي اعتدت أن أخآلو فيه إلى الطبيعة مع نفسي أحيانا ومع صفوة أصدقأائي أحيانا أخآرى.
يا إلهي! ..هاهي .ولقد رأتني جيدا ..مريم جالسة بعيدة عني ولكن في نفس الحيز المكاني على أرض ال.
إني أفرح بوجودي على قأيد الحياة مادام في القلب متسع لحب الرض والسماء والنجوم والكواكب والبشر والحيوانات
والحشرات والنباتات.
مالي أتعجب لذلك الصمت الموحش بين مريم وزوجها .أليس هو نفس الصمت الذي طالما جمع بيني وبين
عايدة منذ سنوات؟ ..قأبل أن أفيق من غيبوبتي كنا نجلس الساعات الطوال نتحدث حتى يفرغ الكلم فننصرف .يؤرقأني
هجوم الصمت لني أكره الملل وأخآشى مواجهته لثقتي بأنه أقأوى مني ،وبأن هناك حقيقة تجلت تؤكد وجود ما يسمى
بالحب الثاني ،وأنه قأادم ل محالة.
ظللت أحب عايدة ربع قأرن من الزمان أو يزيد حتى أصابنا الصمت معا فأحببت مريم الصامتة! هاهي الخآرى
تدفع الصمت قأربانا لما تبقى من حياتها بعد أن عاشت عفيفة فاضلة وأخآلصت لحياتها المقننة وربت بشارة وعلمته
فتزوج وأنجب وابتعد وأصبحت تفتقد شيئا حميميا خآاصا تعيش لجله ..حتى متعتها بحفيدها الصغير يوسف ل تتجاوز
اليام القليلة التي تراه فيها في المناسبات.
أغلب ظني أنهما يتحدثان الن عن درجة برودة المشروب أو عن سوء الخآدمة في المكان .تعالى إلى يا مريم
وأتركيه ولسوف نتحدث معا حتى الصباح بل تنفس ..كم يعذبني ذلك الحساس الواهم الراسخ الظالم بأن هذا الرجل قأد
اخآتطفها لنفسه في غفلة من الزمن رغم أن قألبها لم ينبض لحظة بحبه ..ويشهد ال أنني دعوت لها في صلتي أن
يصونها ويحفظها من كل سوء .إني أعوذ بقدرته وعظمته أن يكون حبي لها سببا في اللم لي مخآلوق ،وأسأله أن
ينعكس هذا الحب على حياتنا بفيض من نعيمه على أحبائنا الخآرين الذين أمضينا معهم كل ما انقضى من رحلة العمر.
إنه عطاء مقدس من الرب يخآص به عبادا يقدرون نعمته التي ل تحصى ،فيكشف لهم عن كنوز من الرحمة ل يعرفها
قأساة القلوب.
إني أكاد أطير فرحا بطمأنينتي وسعادتي ورضاي ،فالخآوف ل يأتي إل مع النوايا الشريرة يا مريم ،وأنا ل أرغب
فيك بل أرغب لك ،ل أطمع فيك بل أطمع لك .إن كبرياءك العفيف يسحرني فأعشقه وأقأدسه ،ولكن ..إلم الصمت يا
مريم؟!
***