You are on page 1of 3

‫) ‪( 16‬‬

‫حليم صادق‬
‫‪1992‬‬
‫سلمتها رسالتي لحظة النصراف من العمل لقأطع الطريق على نظرة دهشة أو كلمة تساؤل‪ ،‬ثم أمضيت ده ار‬
‫في انتظار الصباح متحديا منحني الحياة الخآذ في الهبوط‪ ،‬والذي كنت على ثقة من أنه لن يحد من سرعته إل وقأوع‬
‫عيني مريم على كلماتي‪.‬‬
‫فوجئت بها تطرق باب مكتبي‪ .‬حاصرت فرحتي وارتباكي وخآوفي ويأسي فلم أنطق حرفا‪ .‬حيتني ووقأفت تتأمل‬
‫الورد أمام النافذة ومصيري معلق بشفتيها اللتين قأهرتا الزمن وأبقيتا دماءه القرمزية في لونهما الوردي المتفجر بالحياة‪.‬‬
‫رأيت المل في الخآطوط الرقأيقة المتشابكة تحت عينيها المشعتين ببريق الشباب‪ ،‬فهدأت ضربات قألبي قأليل‪ ..‬وكان‬
‫الحصن منيعا ل تهزه أعتى الزلزل‪ ..‬طهو ار ل يعرف الدنس طريقا إليه‪ .‬أبوابه الفولذية نظرات غامضة منذرة يعجز‬
‫السحرة عن فك طلسمها السرمدية‪ .‬يعصمني من الكلم عجزي عنه ولكن متى تكف عن قأسوتها الصامتة فتتكلم؟‬
‫هذه الشجيرة مكتوب عليها أل تثمر‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫خآيل إلى أنها تبلغني ردها الموجز على رسالتي‪ .‬أصابت قألبي بطعنة لكنها لم تكن قأاتلة لني مدرك لروعة نبوءتها‬
‫الحكيمة‪ ،‬فما الذي يرجي من علقأة تجمع ما بيننا بما يتجاوز حدود الزمالة غير حب عاجز مشوه لن يكتب له قأرب ول‬
‫وصل ول توحد‪ ،‬ولن يعرف الطمأنينة والبهجة والرتواء والنمو؟!‬
‫قألت متسائل وكأني أقأاتل دفاعا عن بقية عمري‪:‬‬
‫أكل هذه الخآضرة ل تكفي؟‬ ‫‪-‬‬
‫وكأنها لم تق أر حرفا مما كتبت لها‪ ..‬قأالت بثقة‪:‬‬
‫إن نموها محدود بقاع الصندوق الذي لن يسمح لجذورها بالمتداد‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ل الدين السلمي ول الدين المسيحي ول الشرع ول المجتمع سوف يسمح لنا أن نعيش تجربة حب معا‪ .‬اندفعت‬
‫بجيوشي مسلحا بغريزة البقاء‪:‬‬
‫‪ -‬تكفيني بهجة اخآضرارها فأنا ل أطمع في أن تثمر أو أجني منها الفاكهة‪.‬‬
‫كان منتهى أملي أن يفتح كل منا صدره وقألبه للخآر‪ ،‬ولست أدري لماذا أو كيف أو من أين جاء هذا المل‪،‬‬
‫وأنا لم أكن أشتهيها كامرأة رغم أنها لم تفقد بعد أنوثتها‪ ،‬بل إنها أكثر فتنة وحيوية من حسناء على مشارف الثلثين‪.‬‬
‫كان واضحا أنها أحصت أسلحتي كما وكيفا حين حاصرتني بالصمت وأبقت سرها خآافيا ل تريد أن تبوح به‪.‬‬
‫غادرت المكتب فجأة فاستطعت أن أتنفس في يسر ولكني تعجبت لماذا لم أصرح لها بأنني – بعد انقضاء كل هذا العمر‬
‫– أحببتها فجأة وبقوة؟!‬
‫لم أجرؤ على رفع سماعة التليفون لكمل معها حديثنا المبتور‪ .‬خآطر ببالي أن أطلب عايدة بدل منها لقأول‬
‫لها إن المستحيل قأد حدث فقد أحببت من بعدها امرأة أخآرى تكبرها في السن‪ ..‬لم أجرؤ أيضا على ذلك‪.‬‬
‫حينئذ عرفت أنني يجب أن أكذب – لول مرة في حياتي – وأن أتعايش مع أكذوبتي حتى النهاية‪ ،‬فأخآاف‬
‫وأشعر بالذنب وأضعف وأتردد ويهتز احترامي لذاتي وأتألم وأحزن وأمرض ويخآتل توازن ملكاتي الوجدانية التي يقوم عليه‬
‫عصب حياتي‪.‬‬
‫أسلمت قأيادة أفكاري لقدمي فلم أشعر بغروب الشمس إل حين وجدت نفسي جالسا إلى مائدة بأحد الكازينوهات‬
‫المطلة على البحر والذي اعتدت أن أخآلو فيه إلى الطبيعة مع نفسي أحيانا ومع صفوة أصدقأائي أحيانا أخآرى‪.‬‬
‫يا إلهي!‪ ..‬هاهي‪ .‬ولقد رأتني جيدا‪ ..‬مريم جالسة بعيدة عني ولكن في نفس الحيز المكاني على أرض ال‪.‬‬
‫إني أفرح بوجودي على قأيد الحياة مادام في القلب متسع لحب الرض والسماء والنجوم والكواكب والبشر والحيوانات‬
‫والحشرات والنباتات‪.‬‬
‫مالي أتعجب لذلك الصمت الموحش بين مريم وزوجها‪ .‬أليس هو نفس الصمت الذي طالما جمع بيني وبين‬
‫عايدة منذ سنوات؟‪ ..‬قأبل أن أفيق من غيبوبتي كنا نجلس الساعات الطوال نتحدث حتى يفرغ الكلم فننصرف‪ .‬يؤرقأني‬
‫هجوم الصمت لني أكره الملل وأخآشى مواجهته لثقتي بأنه أقأوى مني ‪ ،‬وبأن هناك حقيقة تجلت تؤكد وجود ما يسمى‬
‫بالحب الثاني‪ ،‬وأنه قأادم ل محالة‪.‬‬
‫ظللت أحب عايدة ربع قأرن من الزمان أو يزيد حتى أصابنا الصمت معا فأحببت مريم الصامتة! هاهي الخآرى‬
‫تدفع الصمت قأربانا لما تبقى من حياتها بعد أن عاشت عفيفة فاضلة وأخآلصت لحياتها المقننة وربت بشارة وعلمته‬
‫فتزوج وأنجب وابتعد وأصبحت تفتقد شيئا حميميا خآاصا تعيش لجله‪ ..‬حتى متعتها بحفيدها الصغير يوسف ل تتجاوز‬
‫اليام القليلة التي تراه فيها في المناسبات‪.‬‬
‫أغلب ظني أنهما يتحدثان الن عن درجة برودة المشروب أو عن سوء الخآدمة في المكان‪ .‬تعالى إلى يا مريم‬
‫وأتركيه ولسوف نتحدث معا حتى الصباح بل تنفس‪ ..‬كم يعذبني ذلك الحساس الواهم الراسخ الظالم بأن هذا الرجل قأد‬
‫اخآتطفها لنفسه في غفلة من الزمن رغم أن قألبها لم ينبض لحظة بحبه‪ ..‬ويشهد ال أنني دعوت لها في صلتي أن‬
‫يصونها ويحفظها من كل سوء‪ .‬إني أعوذ بقدرته وعظمته أن يكون حبي لها سببا في اللم لي مخآلوق‪ ،‬وأسأله أن‬
‫ينعكس هذا الحب على حياتنا بفيض من نعيمه على أحبائنا الخآرين الذين أمضينا معهم كل ما انقضى من رحلة العمر‪.‬‬
‫إنه عطاء مقدس من الرب يخآص به عبادا يقدرون نعمته التي ل تحصى‪ ،‬فيكشف لهم عن كنوز من الرحمة ل يعرفها‬
‫قأساة القلوب‪.‬‬
‫إني أكاد أطير فرحا بطمأنينتي وسعادتي ورضاي‪ ،‬فالخآوف ل يأتي إل مع النوايا الشريرة يا مريم‪ ،‬وأنا ل أرغب‬
‫فيك بل أرغب لك‪ ،‬ل أطمع فيك بل أطمع لك‪ .‬إن كبرياءك العفيف يسحرني فأعشقه وأقأدسه‪ ،‬ولكن‪ ..‬إلم الصمت يا‬
‫مريم؟!‬
‫***‬

You might also like