Professional Documents
Culture Documents
حليم صادق
1992
مزقت رسالة سمير ثم أحرقتها ..وما أن جلست مريم أمامي حتى اندفع من فمي سيل من الكلمات ل يكاد
يتوقف ،جارفا معه ثرثرتي السريعة اللهاثة المتلهفة إلى التواصل قبل انتهاء مهلة الهاتف غير المحددة والتي كنت
أحسب أن موتي دونها ..وبين الحين والحين أنظر في عيني مريم الناعستين الثاقبتين وابتلع انطباعاتي الحائرة عن
مغزي تلك النظرات الغامضة ..أهاي روح قدسية شفافة تلك التي تشع من عينيها لتتبصر بها العواقب الكامنة في أعماق
الغيب فتحجم عن الستجابة وتلتزم الصمت ،أم أنها – واستغفر ال – إشعاعات مكر النثى حين تترقب وتفكر وتراوغ
وتناور دون أن تكتشف عن حقيقتها الراغبة في خوض نفس التجربة ،أم تعني تلك النظرات شيئا آخر ل أدرك كنهه؟
وأواصل ترثرتي بشبق غريب للكلم ..حتى نزواتي وسقطاتي انتزعتها مريم من بؤرة ل وعيي إلى بؤبؤي عينيها
وهاي تستمع بكتلة من الحواس المركزة في عينيها – قادرة على احتواء أسرار الخلق أجمعين – إلى طقس اعتراف
تفصيلي عن أغوار نفسي التي لم أنتبه إلى ما تحويه من تناقضات قبل الن.
وتندهاش عيناهاا حينا فيقفز قلبي من صدري لنها انفعلت للحظة ،وأكاد أتلقفه بيدي حتى ل يضيع مني..
وتبتسم أحيانا فانصهر في "كرمشات" جفونها التي برع الزمان الفنان في رسمها بعبقرية فذة ..بين هاذه الخطوط الرقيقة
الدقيقة المتشابكة في محبة وتناغم ،عثرت على مفقودات كثيرة من عمري كنت أجهلها ،ومن بين ثناياهاا الوديعة انبعثت
أنغام حانية غمرت روحي بسكينة لم أعرفها من قبل ،حتى أن الطمأنينة لم تفارقني وأنا في قاع البئر ..أريد ول أريد أن
يلقي إلى بحبل يلتف حول حيرتي العاشقة المعشوقة.
ظلت مريم منصتة دون أن تجود بكلمة .حائط خرساني ل أظنه يتصدع بسهولة ليكشف حطامه عن نظرة
أصيلة من القلب أو حتى عن ثورة من الغضب ،رافضة ما يجول بخاطري من جنون أنا أجبن من البوح به حتى لنفسي.
في المساء أشفق على القدر من بطشه حين تذكرت زيارة سمير زخاري الوحيدة لمصر والتي جمعت بيننا بعد
هاجرته بثلثة أعوام.
1967
كانت قصة حبه لزميلتنا الراحلة "سهير" تروي في الجامعة كما تروي الساطير .لكنه تزوج بغيرهاا بعد أن ماتت
بقطعة صغيرة من الحجر ألقاهاا طفل يلهو بالمصادفة فارتطمت برأسها .سألته بإشفاق:
ألم تحب زوجتك؟ -
قال بأسي:
لم أحب غير سهير. -
شعرت أنني نكأت جرحه القديم فالتزمت الصمت ،وأطرقت مفك ار في لشيء ،حتى دار بيننا الحديث حول أيام الجامعة
فجاءت سيرة مريم وتعجبت من معارضته الشديدة لرغبتي في أن نزورهاا معا في مكتبها بالجامعة ،متعلل بضيق الوقت
الذي لن يكفي لزيارة أمه وبقية أسرته والبقاء ببيت كل منهم ليلة واحدة على القل ،ليغمس البامية والملوخية بيديه ل
بشوكة وسكين ،وليأكل محشي ورق العنب والكرنب وفتة الكوارع والممبار والحلبة المعقودة.
1992
واليوم تستبد بي نشوة لم أخبرهاا من قبل ،فالدهاشة تعاودني وأحزاني تتصالح مع أفراحي ..ومشاعري تحررت
من استكانتها إلى الطمأنينة القاتلة مع أسرتي الحبيبة ..هاا هاو القلب يفيق من غيبوبته فأقول لنفسي ما لم أقو على
قوله من قبل ":إني أحبها ..ولو كانت نهايتي على يديها فلن أعبأ بشيء"..
ولم يكن أمامي إل أن أكتب لها ما عجزت عن قوله.
***