You are on page 1of 3

‫) ‪( 14‬‬

‫حليم صادق‬
‫‪1992‬‬
‫مزقت رسالة سمير ثم أحرقتها‪ ..‬وما أن جلست مريم أمامي حتى اندفع من فمي سيل من الكلمات ل يكاد‬
‫يتوقف‪ ،‬جارفا معه ثرثرتي السريعة اللهاثة المتلهفة إلى التواصل قبل انتهاء مهلة الهاتف غير المحددة والتي كنت‬
‫أحسب أن موتي دونها‪ ..‬وبين الحين والحين أنظر في عيني مريم الناعستين الثاقبتين وابتلع انطباعاتي الحائرة عن‬
‫مغزي تلك النظرات الغامضة‪ ..‬أهاي روح قدسية شفافة تلك التي تشع من عينيها لتتبصر بها العواقب الكامنة في أعماق‬
‫الغيب فتحجم عن الستجابة وتلتزم الصمت‪ ،‬أم أنها – واستغفر ال – إشعاعات مكر النثى حين تترقب وتفكر وتراوغ‬
‫وتناور دون أن تكتشف عن حقيقتها الراغبة في خوض نفس التجربة‪ ،‬أم تعني تلك النظرات شيئا آخر ل أدرك كنهه؟‬
‫وأواصل ترثرتي بشبق غريب للكلم‪ ..‬حتى نزواتي وسقطاتي انتزعتها مريم من بؤرة ل وعيي إلى بؤبؤي عينيها‬
‫وهاي تستمع بكتلة من الحواس المركزة في عينيها – قادرة على احتواء أسرار الخلق أجمعين – إلى طقس اعتراف‬
‫تفصيلي عن أغوار نفسي التي لم أنتبه إلى ما تحويه من تناقضات قبل الن‪.‬‬
‫وتندهاش عيناهاا حينا فيقفز قلبي من صدري لنها انفعلت للحظة‪ ،‬وأكاد أتلقفه بيدي حتى ل يضيع مني‪..‬‬
‫وتبتسم أحيانا فانصهر في "كرمشات" جفونها التي برع الزمان الفنان في رسمها بعبقرية فذة‪ ..‬بين هاذه الخطوط الرقيقة‬
‫الدقيقة المتشابكة في محبة وتناغم‪ ،‬عثرت على مفقودات كثيرة من عمري كنت أجهلها‪ ،‬ومن بين ثناياهاا الوديعة انبعثت‬
‫أنغام حانية غمرت روحي بسكينة لم أعرفها من قبل‪ ،‬حتى أن الطمأنينة لم تفارقني وأنا في قاع البئر‪ ..‬أريد ول أريد أن‬
‫يلقي إلى بحبل يلتف حول حيرتي العاشقة المعشوقة‪.‬‬
‫ظلت مريم منصتة دون أن تجود بكلمة‪ .‬حائط خرساني ل أظنه يتصدع بسهولة ليكشف حطامه عن نظرة‬
‫أصيلة من القلب أو حتى عن ثورة من الغضب‪ ،‬رافضة ما يجول بخاطري من جنون أنا أجبن من البوح به حتى لنفسي‪.‬‬
‫في المساء أشفق على القدر من بطشه حين تذكرت زيارة سمير زخاري الوحيدة لمصر والتي جمعت بيننا بعد‬
‫هاجرته بثلثة أعوام‪.‬‬
‫‪1967‬‬
‫كانت قصة حبه لزميلتنا الراحلة "سهير" تروي في الجامعة كما تروي الساطير‪ .‬لكنه تزوج بغيرهاا بعد أن ماتت‬
‫بقطعة صغيرة من الحجر ألقاهاا طفل يلهو بالمصادفة فارتطمت برأسها‪ .‬سألته بإشفاق‪:‬‬
‫ألم تحب زوجتك؟‬ ‫‪-‬‬
‫قال بأسي‪:‬‬
‫لم أحب غير سهير‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شعرت أنني نكأت جرحه القديم فالتزمت الصمت‪ ،‬وأطرقت مفك ار في لشيء‪ ،‬حتى دار بيننا الحديث حول أيام الجامعة‬
‫فجاءت سيرة مريم وتعجبت من معارضته الشديدة لرغبتي في أن نزورهاا معا في مكتبها بالجامعة‪ ،‬متعلل بضيق الوقت‬
‫الذي لن يكفي لزيارة أمه وبقية أسرته والبقاء ببيت كل منهم ليلة واحدة على القل‪ ،‬ليغمس البامية والملوخية بيديه ل‬
‫بشوكة وسكين‪ ،‬وليأكل محشي ورق العنب والكرنب وفتة الكوارع والممبار والحلبة المعقودة‪.‬‬
‫‪1992‬‬
‫واليوم تستبد بي نشوة لم أخبرهاا من قبل‪ ،‬فالدهاشة تعاودني وأحزاني تتصالح مع أفراحي‪ ..‬ومشاعري تحررت‬
‫من استكانتها إلى الطمأنينة القاتلة مع أسرتي الحبيبة‪ ..‬هاا هاو القلب يفيق من غيبوبته فأقول لنفسي ما لم أقو على‬
‫قوله من قبل‪ ":‬إني أحبها‪ ..‬ولو كانت نهايتي على يديها فلن أعبأ بشيء"‪..‬‬
‫ولم يكن أمامي إل أن أكتب لها ما عجزت عن قوله‪.‬‬
‫***‬

You might also like