You are on page 1of 3

‫) ‪( 12‬‬

‫حليم صادق‬
‫‪1992‬‬
‫تألمت كثي ار بعد قراءتي لرسالة سمير‪ .‬إنه مسكين أمضي عمره في ظلمات المادة فلم يعرف أنوار الروح‪ ..‬أما‬
‫رسالته فلن أقرأها مرة ثانية‪.‬‬
‫غابت مريم مع فوج دبلوماسي في زيارة أثرية‪ .‬كانت حديقة الموتى خالية إل من الحارس الكسول‪ ،‬وتلبدت‬
‫السماء بغيوم حزينة‪ .‬أمسكت بكتاب للدكتورة مدينة أغوص فيه هربا من الغوص في نفسي‪ .‬تفكرت في كلماتها المكررة‬
‫عن " جمود الفكر العربي والتصاقه بالثوابت وعجزه عن مسايرة المتغيرات العالمية وخلطه بين المطلق والنسبي أو القلب‬
‫والعقل أوالدين والسياسة"‪ ..‬فقلت مالي بهذا كله والسيل قادم أمام عيني أراه وأسمع صوت هديره المخيف‪ .‬ولما اعتادت‬
‫قدماي زيارة الطبيب بدأت أفكر في الموت‪ ،‬ولكنى لم أبال به‪.‬‬
‫السيل قادم أراه وأسمع هديره ول أفكر في الهروب منه‪ ،‬بل أفكر في الستسلم له‪ .‬ولما نظرت إلى عضلتى‬
‫وجدتها آخذة في النكماش والتراخي بل خط مأمول للرجعة‪ ،‬ولما فتحت فمي وجدت عددا من الضراس قد نزع وترك‬
‫مكانه خاليا لوظيفة ثقافية لم تعد تعني عندي شيئا – في مجتمع ل يعبأ بها‪ -‬إذا ما قيست بطموحاتي القديمة وأحلمي‬
‫الراحلة‪.‬‬
‫لما جاءت مريم خرجت من خلوتي ودخلت في نفسى فوجدتني في بئر عميق بإرادتي ثم رحت أحلم بحبل يلقيه‬
‫إل ىى أحد السيارة حتى أعود إلى زوجتي عايدة‪ .‬في البئر كان نبيذ معتق‪ .‬تجرعت منه حتى الثمالة واستغفرت ال متأمل‬
‫الحكمة من زواجي المبكر بفتاة تكبرني بعامين فلم أهتد إلى شيء‪ ،‬لكني استمعت إلى نشيد تغنيه مريم خارج البئر "‬
‫أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى‪ ،‬أين تربض عند الظهيرة"‪ ..‬وتعجبت مما سمعت وناديتها فلم تسمعني فتعجبت‬
‫ثانية لنها كانت تراني‪ ،‬ولكن بم يفيد العجب وكل شيء على هذه الرض قابل للعتياد مهما بدأ في أوله مبه ار أو ل‬
‫معقول‪.‬‬
‫‪1970‬‬
‫بعد التخرج حذرني عمى جبريل من الزواج بعايدة وقد أشفق على من شدة هيامي بها‪ .‬قال إنني حين أبلغ‬
‫الربعين سأكون في عنفوان شبابي بينما تبدأ هي في الذبول‪ .‬نظرت متعجبا إلى زوجته القصيرة العجفاء والتي رأى‬
‫بحنكته أنها أنسب الزوجات على الرض لنظريته في الزواج‪ ،‬ولم أعر قوله أدنى اهتمام حتى بدا وكأنه يخاطب كائنا‬
‫آخر غير مرئي يشغل حي از وجوديا في المكان‪.‬‬
‫أما في حفل خطوبتنا فقال لي واحد من عجائز السرة هامسا في أذني بسخرية خبيثة‪:‬‬
‫‪-‬يا بني‪ ..‬إن عظمك مازال طريا عليها‪.‬‬
‫ولقد كرهته منذ تلك اللحظة وأسقطته من ذاكرتي‪ ،‬لكني عدت فتذكرته هو وعمي جبريل الغبي ليلة الزفاف‪ ،‬حين اختليت‬
‫بعايدة لول مرة ونحن متجهان إلى غرفة النوم‪ ،‬فكرت أن أحملها على يدي مثلما أرى في الفلم وأقبلها على جبينها‬
‫وأهمس في أذنيها بكلمات عن الحب والشوق والغرام في ليلة العمر التي ل تتكرر‪.‬‬
‫مازلت أتساءل حتى اليوم لماذا لم أفعل؟!‪..‬‬
‫‪1980‬‬
‫ولقد بلغ بي تساؤلي ذات يوم ذروته في أحد ميادين جوتنبرج حين وجدت نفسي أحمل " كارينا" على يدي وأجرى بها‬
‫من أول الرصيف إلى آخره وهي تصرخ في نشوة صبيانية رائعة وأنا أقهقه في رزانة سخيفة لم تخل من بقايا بهجة‬
‫جنونية رغم مضي عشر سنوات على زواجي من عايدة‪.‬‬
‫كنت على مشارف الربعين‪ ،‬أما كارينا الحسناء ذات البسمة الباسمة فقد كانت في الخامسة والعشرين‪ .‬هكذا‬
‫كنا ذك ار وأنثى ‪ ،‬رجل وامرأة‪ ..‬شيء غامض مشع‪ ,‬شعور رائع ومثير‪ ،‬يؤكد أن لنداء الطبيعة استجابة فطرية ل‬
‫تستدعى التفكير والتأمل‪ ،‬وليست بحاجة إلى البحث عن إجابة لتساؤلت عن فعل طبيعي يحدث من تلقاء نفسه‪ ،‬فإنما‬
‫هو قانون كوني يكتسح بقوته كل ما يشيده العقل من سدود‪.‬‬
‫كنت أسمع نبضات قلبها وهي تقول لي بانفعال‪:‬‬
‫إني أريد رجل يكبرني ويفوقني في كل شيء حتى أشعر أنني أنثاه!‬ ‫‪-‬‬
‫وأفتح على نفسي باب الجحيم فأشرد في المقارنة وهي تواصل حديثها‪:‬‬
‫ولو لم أتعلم منه واحتمي به وأتدلل عليه‪ ،‬لما تحققت المعادلة الصحيحة للعلقة بين رجل وامرأة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فتاة أوربية في الخامسة والعشرين تعبرعن فطرتها بيسر قد يعجز عنه أبلغ الفصحاء‪ ..‬وكثي ار ما تقول لي عايدة‪:‬‬
‫أنت ل تدللني أبدا‪..‬‬ ‫‪-‬‬
‫وأريد أن أقول لها إن هذه المسألة قد شغلتني طويل‪ ،‬وأنني كلما اقتربت من المحاولة سارعت إلى التراجع‬
‫عنها حتى ل آتى بفعل ماسخ يخلو من الصدق ول ينبع من دافع فطري أصيل‪ ..‬فالذي يدلل هو الكبر‪ ،‬ولن الكذب‬
‫أعدي أعدائي في الحياة فلن أكذب أبدا على نفسي أو عليها‪.‬‬
‫وكيف أدللك؟‬ ‫‪-‬‬
‫قل لي مثل يا عايودتي‪ ..‬يا دلوعتي‪ ..‬أي حاجة غير عايدة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ولكن لساني يعجز عن القول‪.‬‬
‫‪1992‬‬
‫لما جاءت مريم جاءني معها الهاتف الذي دفعني إليها يحذرني بشدة من التمادي فيما أنا مقبل عليه من‬
‫حمق‪ .‬لماذا يباعدني الن عنها وهو الذي زين لي القرب؟ لماذا يؤكد لي الن أنني محسود على حياتي المستقرة‬
‫الهانئة في كنف زوجة جميلة محبة وابن رائع وابنة أكثر روعة وجمال‪ ،‬والثنان ناجحان متألقان‪ ..‬محسود أنا على ما‬
‫يسمونه وظيفتي المرموقة وعلى مجموعتي النادرة من صفوة الصدقاء‪ .‬منحني الهاتف مهلة – لم يحدد مداها – إما أن‬
‫أتخذ خللها قراري بوضوح تجاه مريم إواما أن أمتنع من بعدها عن القتراب من عالمها أو الحديث معها أو عنها‪ ،‬ذلك‬
‫إن كنت أرغب العيش في سلم‪.‬‬
‫‪1994‬‬
‫ليتني اخترت السلم‪ ..‬ولكن من يجرؤ على‬
‫الدعاء بأنه ل يختار دائما إل ما يريد؟‬

You might also like