Professional Documents
Culture Documents
حليم صادق
1992
تألمت كثي ار بعد قراءتي لرسالة سمير .إنه مسكين أمضي عمره في ظلمات المادة فلم يعرف أنوار الروح ..أما
رسالته فلن أقرأها مرة ثانية.
غابت مريم مع فوج دبلوماسي في زيارة أثرية .كانت حديقة الموتى خالية إل من الحارس الكسول ،وتلبدت
السماء بغيوم حزينة .أمسكت بكتاب للدكتورة مدينة أغوص فيه هربا من الغوص في نفسي .تفكرت في كلماتها المكررة
عن " جمود الفكر العربي والتصاقه بالثوابت وعجزه عن مسايرة المتغيرات العالمية وخلطه بين المطلق والنسبي أو القلب
والعقل أوالدين والسياسة" ..فقلت مالي بهذا كله والسيل قادم أمام عيني أراه وأسمع صوت هديره المخيف .ولما اعتادت
قدماي زيارة الطبيب بدأت أفكر في الموت ،ولكنى لم أبال به.
السيل قادم أراه وأسمع هديره ول أفكر في الهروب منه ،بل أفكر في الستسلم له .ولما نظرت إلى عضلتى
وجدتها آخذة في النكماش والتراخي بل خط مأمول للرجعة ،ولما فتحت فمي وجدت عددا من الضراس قد نزع وترك
مكانه خاليا لوظيفة ثقافية لم تعد تعني عندي شيئا – في مجتمع ل يعبأ بها -إذا ما قيست بطموحاتي القديمة وأحلمي
الراحلة.
لما جاءت مريم خرجت من خلوتي ودخلت في نفسى فوجدتني في بئر عميق بإرادتي ثم رحت أحلم بحبل يلقيه
إل ىى أحد السيارة حتى أعود إلى زوجتي عايدة .في البئر كان نبيذ معتق .تجرعت منه حتى الثمالة واستغفرت ال متأمل
الحكمة من زواجي المبكر بفتاة تكبرني بعامين فلم أهتد إلى شيء ،لكني استمعت إلى نشيد تغنيه مريم خارج البئر "
أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى ،أين تربض عند الظهيرة" ..وتعجبت مما سمعت وناديتها فلم تسمعني فتعجبت
ثانية لنها كانت تراني ،ولكن بم يفيد العجب وكل شيء على هذه الرض قابل للعتياد مهما بدأ في أوله مبه ار أو ل
معقول.
1970
بعد التخرج حذرني عمى جبريل من الزواج بعايدة وقد أشفق على من شدة هيامي بها .قال إنني حين أبلغ
الربعين سأكون في عنفوان شبابي بينما تبدأ هي في الذبول .نظرت متعجبا إلى زوجته القصيرة العجفاء والتي رأى
بحنكته أنها أنسب الزوجات على الرض لنظريته في الزواج ،ولم أعر قوله أدنى اهتمام حتى بدا وكأنه يخاطب كائنا
آخر غير مرئي يشغل حي از وجوديا في المكان.
أما في حفل خطوبتنا فقال لي واحد من عجائز السرة هامسا في أذني بسخرية خبيثة:
-يا بني ..إن عظمك مازال طريا عليها.
ولقد كرهته منذ تلك اللحظة وأسقطته من ذاكرتي ،لكني عدت فتذكرته هو وعمي جبريل الغبي ليلة الزفاف ،حين اختليت
بعايدة لول مرة ونحن متجهان إلى غرفة النوم ،فكرت أن أحملها على يدي مثلما أرى في الفلم وأقبلها على جبينها
وأهمس في أذنيها بكلمات عن الحب والشوق والغرام في ليلة العمر التي ل تتكرر.
مازلت أتساءل حتى اليوم لماذا لم أفعل؟!..
1980
ولقد بلغ بي تساؤلي ذات يوم ذروته في أحد ميادين جوتنبرج حين وجدت نفسي أحمل " كارينا" على يدي وأجرى بها
من أول الرصيف إلى آخره وهي تصرخ في نشوة صبيانية رائعة وأنا أقهقه في رزانة سخيفة لم تخل من بقايا بهجة
جنونية رغم مضي عشر سنوات على زواجي من عايدة.
كنت على مشارف الربعين ،أما كارينا الحسناء ذات البسمة الباسمة فقد كانت في الخامسة والعشرين .هكذا
كنا ذك ار وأنثى ،رجل وامرأة ..شيء غامض مشع ,شعور رائع ومثير ،يؤكد أن لنداء الطبيعة استجابة فطرية ل
تستدعى التفكير والتأمل ،وليست بحاجة إلى البحث عن إجابة لتساؤلت عن فعل طبيعي يحدث من تلقاء نفسه ،فإنما
هو قانون كوني يكتسح بقوته كل ما يشيده العقل من سدود.
كنت أسمع نبضات قلبها وهي تقول لي بانفعال:
إني أريد رجل يكبرني ويفوقني في كل شيء حتى أشعر أنني أنثاه! -
وأفتح على نفسي باب الجحيم فأشرد في المقارنة وهي تواصل حديثها:
ولو لم أتعلم منه واحتمي به وأتدلل عليه ،لما تحققت المعادلة الصحيحة للعلقة بين رجل وامرأة. -
فتاة أوربية في الخامسة والعشرين تعبرعن فطرتها بيسر قد يعجز عنه أبلغ الفصحاء ..وكثي ار ما تقول لي عايدة:
أنت ل تدللني أبدا.. -
وأريد أن أقول لها إن هذه المسألة قد شغلتني طويل ،وأنني كلما اقتربت من المحاولة سارعت إلى التراجع
عنها حتى ل آتى بفعل ماسخ يخلو من الصدق ول ينبع من دافع فطري أصيل ..فالذي يدلل هو الكبر ،ولن الكذب
أعدي أعدائي في الحياة فلن أكذب أبدا على نفسي أو عليها.
وكيف أدللك؟ -
قل لي مثل يا عايودتي ..يا دلوعتي ..أي حاجة غير عايدة. -
ولكن لساني يعجز عن القول.
1992
لما جاءت مريم جاءني معها الهاتف الذي دفعني إليها يحذرني بشدة من التمادي فيما أنا مقبل عليه من
حمق .لماذا يباعدني الن عنها وهو الذي زين لي القرب؟ لماذا يؤكد لي الن أنني محسود على حياتي المستقرة
الهانئة في كنف زوجة جميلة محبة وابن رائع وابنة أكثر روعة وجمال ،والثنان ناجحان متألقان ..محسود أنا على ما
يسمونه وظيفتي المرموقة وعلى مجموعتي النادرة من صفوة الصدقاء .منحني الهاتف مهلة – لم يحدد مداها – إما أن
أتخذ خللها قراري بوضوح تجاه مريم إواما أن أمتنع من بعدها عن القتراب من عالمها أو الحديث معها أو عنها ،ذلك
إن كنت أرغب العيش في سلم.
1994
ليتني اخترت السلم ..ولكن من يجرؤ على
الدعاء بأنه ل يختار دائما إل ما يريد؟