Professional Documents
Culture Documents
حليم صادق
1992
حين تمكنت من النوم رأيت مريم قد عادت إلى الجامعة مرة أخرى وتركت المتحف ،ورأيت نفسي أجوب شوارع
السكندرية منذ ثلثة وعشرين يوما ،باحثا بين تماثيلها وقصورها وحماماتها ومكتباتها وحدائقها ومعابدها عن مريم.
كانت الميادين خالية من الفرق الموسيقية ولم أر عصافير تغني على الشجار ..وبينما أطوي الطريق المظلم مسترشدا
بهمسات الليل العاشقة أتاني الهاتف في نوبة من نوباته المتعاقبة ،وكان إشفاق ربة القمر على عظيما حين أنذرتني
بالويل لنني لم أكن اعرف ماذا أريد أو إلى أين أذهب ،ولماذا أبحث عن مريم بهذه الحرقة.
في قلب النوبة كنت آمونيا فصرت آتونيا ثم عدت آمونيا فصرت مسيحيا ثم أسلمت ،وكنت هيروغليفيا فتحولت
إلى قبطي فعربي ،ويعلم ال ماذا ستكون لغتي بعد مئات السنين ،فالغزو غير ديني ولغتي ،والزمن يغير الغزو،والقلب
يغيره الزمن وسبحان مقلب القلوب.
في الصباح وقفت خلف نافذتي متحر ار من رغبتي في تسلق النخلة الطويلة ذات العناقيد المثمرة ،ومن تغير
لغتي وديني عدة مرات ،هامت من حولي أرواح الموتى من مختلف الزمنة والمكنة والملل والنحل ،وكأنما أصبحت فى
مأمن من صيحات الهاتف وهمساته ،أنتظر ظهور مريم للوح لها بيدي فترد التحية باتزان ل يخلو من دهشة ،وعندما
تعود إلى مكتبها أتعلل بالسباب كي أتبادل معها حديثا تليفونيا يبدو عاب ار غير مقصود لذاته.
في صوتها بحة حنان ونبرة شهامة ،نبرات لم تألفها أذني في مخلوق من قبل ..توحي بالحياد ،فل هي ممتنة
لتكرار اتصالي بها ولهي رافضة ،وهي ل توحي بآية واحدة من آيات الفضول لمعرفة سر اهتمامي بها.
دهشت من نفسي وكنت أحسب أنني فقدت القدرة على الدهشة ،فاعترتني لحظة سعادة مباغته مكنتني من
الثورة على طمأنينتي المستكينة ،فانتفض القلب وتغني بنشيد الفرحة .لكنها لم تكن كشأن معظم الثورات صاخبة عنيفة
حمراء ،إوانما هي ثورة متسللة هادئة بطيئة وعميقة ..تعزف عليها روحى أنغاما جديدة ترق وتسمو وتتواثب في صعود
وهبوط وقد غمرها النور بنفحات علوية مبهرة.
عندما أتاني صوتها تنبهت إلى أن الساعة تقترب من موعد انتهاء يوم العمل الممل ..ولول مرة تطلبني على
التليفون.
لماذا لم نسمع صوتك منذ أيام عديدة؟ -
دكتورة مريم؟ -
هل نسيت صوتي؟ -
يبدو متغيرا ..هل أصبت بالنفلونزا؟ -
فعل. -
أصبح صوتك ساح ار بازدياد بححته قوة. -
أنت غريب ..أيعجبك هذا الصوت المشوه؟ -
التشويه في الفن هو سر الجمال الحقيقي. -
نسمة كالمنية رفت في قلبي فعاد بنبضاته إلى برعم تتفتح أوراقه للمرة الولى ،فما انجذابي وما أنغامي وما
قلقي إن لم يكونوا آيات الخوف من ارتجاف القلب بين أصابع الزمن؟!
إلى هنا وقد وصلت إلى حد من الحيرة يدفعني إلى البحث عمن ألقى عليه بما ينوء به صدري ،علني أكون
واهما اختلطت عليه مللة الواقع بجلل الحلم ،ولم أجد غير سمير زخاري والدكتورة مدينة كي أكتب لهما في مهجرهما
بأمريكا عن ذلك الصليل الذي يطن في أذني ليل نهار منذ ار بوقوعي في بئر ليس له قرار ..بل إن هناك صليل إنذار
يجلجل صداه الن في أرجاء البلد الطيبة التي لم تعرف الغدر والجبن في طباع أبنائها .هاهم يمزقون جسد الدكتور
فرج فودة برشاشاتهم أمام باب مكتبة وعلى مرأى من ابنه الصغير لنه تج أر فطالب الدولة بإصدار قانون لمحاربة
الرهاب ،ولنه عارض بقلمه ما يدعون إليه من أفكار مبهمة وشعارات مجردة يستترون وراءها ليقفزوا إلى كرسي
السلطة .يقتلون الرجل الذي يرفض الخلط بين السلم وتاريخ المسلمين فسيتنكر بالمنطق العقلني أن يحتسب مجون
الخليفة السلمي الوليد بن يزيد الموي وفسقه وفجوره على السلم ،بينما يمجدون آخر يقول إن السلم يحرم المودة
بين المسلم والمسيحي.
ويعترف القاتل بأن التعليمات العليا بإباحة دم الدكتور فرج فودة صادرة من الدكتور عمر عبد الرحمن زعيم
تنظيم الجهاد الذي أقام بعد ذلك في أمريكا معز از مكرما ،ويصرح بأن الدكتور فرج فودة عميل للمسيحيين لنه يرفع
شعار :ال أكبر ،ال محبة ،ويقبض منهم راتبا شهريا وينفذ سياسة أمريكا ..ولما سئل عن هذه السياسة ومضمونها
أجاب:
لست أعرف. -
ونق أر كل يوم في جرائدنا أن أكثر من دولة عربية – ل أوربية ول أمريكية – تؤوى هذه الجماعات وتدعم
معسكراتهم التدريبية على القتل وسفك دماء المدنيين البرياء.
***