1992 ما أن رأيته حتى تذكرته على الفور ..حليم صادق ،الطالب الوحيد الذي لم يتأثر يوما بموجاتي الجاذبة الطاردة التي تحيطني بهالة مكهربة من الرهبة والرغبة ،تصعق كل من يجرؤ على القتراب .ما من طالب تحاورت معه إل وقرأت في عينيه اهت از از في ثقته بنفسه أمامي بصورة أو بأخرى .كان بعضهم يتصور أو يريدني أن أتصور أنه يعاملني معاملة الملئاكة ،وهو يعلم أنه غير صادق مع نفسه أو معي ،لكنه ل يعرف البديل ..وكان البعض الخر يتحاشاني إيثا ار للسلمة من خطر غامض ليس له وجود إل في ذهنه الضعيف. أما الساتذة فكانوا – بل استثناء – يضمرون نحوي نفو ار داخليا تستره ابتسامات المجاملة وتحيات الصباح. والحق أنني لم أكن أبادلهم في قرارتي نفس الشعور إوانما كنت محايدة تماما ،بل إنني لم أكن أشعر في بعض الحيان بوجودهم في القسم ،فيما عدا الدكتور ميخائايل الذي كان لي بمثابة الب الروحي ،والذي كان يذكرني على الدوام بأبي الراحل حتى لحق به فجأة هو الخر فلم يبق لي صديق. ل أستطيع أن أنكر أن شيئاا ما قد اهتز بداخلي حين رأيت حليم صادق للوهلة الولى .وفي لمح البصر عبرت سنواتي الثلثا والخمسون أمام عيني ..البنة الوحيدة المدللة التي تطلب فتجاب وتبتسم فيقهقه القمر ،وتبكي فيخسف، وتنام فيسكن الليل ،وتصحو فتشرق الشمس .الطالبة الوحيدة في قسم الثار وقد أنشئ لول مرة بكلية الداب .أجمل جميلت الجامعة بغير اشتراك في مسابقة أو دخول في مناقشة معلنة أو خفية ،ثم كانت مواصفاتي لشريك العمر محددة تحديدا قاطعا :أن يكون شكله مقبول ومركزه الجتماعي مرموقا وحالته المادية ميسرة تماما ،ول بد أن يكبرني في السن بعدة سنوات ..ذلك أننى أحب أن أبقى مدللة حتى نهاية العمر. حين بلغت الثالثة والعشرين – أي عقب تخرجي مباشرة – انطبقت المواصفات على الدكتور وفيق جرجس الستاذ المساعد بكلية الطب وكان عمره اثنين وثلثين عاما ولديه عيادة خاصة. يعيش معي منذ ثلثا قرن من الزمان كزوج وأب ،لكني لم أستطع كما لم أرغب في اكتساب صداقته ،كما كان من المستحيل أن أحبه بعد ليلة الزفاف ،فضل عن انه كثير الكلم فيما ل يجدي ول يفيد. الحب حالة لم أعرفها في حياتي حتى اليوم ل مع رجل ول مع امرأة ،ومن الطبيعي أنه لم يتبق لي من العمر وقت لعرفها وأتذوق ما يقال عن حلوتها ومرارتها وعذوبتها. وبقدر كراهيتي للسئالة التي تحوم حول ذاتي كنت أترقب السئالة من حليم ،وأضغط على نفسي فأجيب.. أحاول للمرة الولى وربما الخيرة في حياتي أن أغير من نفسي قبل فوات الوقت. لماذا تركت الجامعة؟ - سألتني وأجبتك من قبل. - لم أقنع بالجابة .ل بد أن هناك سببا آخر. - ……!! - هل لي أن أعرفه؟ - قد أصارحك به يوما. - 1988 لن أنسى ما حييت ولن تنتزع قوة على الرض غصته من قلبي :دانيال ..أخي الوحيد .قتله المجرمون الملتحون داخل صيدليته ونهبوا خزانته تحت راية السلم .كيف أذهب إلى جامعة تنتمي إلى هؤلء القوم فأحاضرهم فيها وأبذل لهم العلم والمعرفة؟ ..بعد ذلك مباشرة كانت المكافأة أن تخطوني في ترقيتي للستاذية ووضعوا بيني وبينها سدا قانونيا منيعا لسنوات عديدة ،وكان هذا التخطي للمرة الثالثة. قرأت الفرحة العارمة والشماتة الطاغية في عيون زملئاي الساتذة ،وتساءلت أي وطن هذا الذي ل أستطيع الحصول فيه علي حقي دون أن أريق ماء وجهي أو أبذل آدميتي أو أترك الذئااب الجائاعة تمرغ رءوسها القذرة في صدري؟ ..دلني أيها الرب ماذا أفعل حتى ل أهزم أمام هؤلء الظالمين ،أو دعني أتصرف حسبما أشاء. حطمت السد وخرقت القانون الذي وضعوه في نصف ساعة على فراش " حسن شحته" الكلب الذي كان القرار بيده .تحملت ضغط كرشه الثقيل يسحق كياني ويفتته في الظلم ،ثم جريت إلى الحمام كي أتقيأ ولكن دون أن تسقط من عيني دمعة واحدة. لم تغلق جفوني طوال الليل .كانت أشواك صدره العريض المشعر تشك صدري كإبر حادة ساخنة لدرجة الحمرار وكان جسده المربع كجسد خنزير نتن الرائاحة يقبع فوق جسدي ويمزقه بشراسة من لم يضاجع امرأة متحضرة في حياته ..كان لعابه يسيل على وجهي وأنفاسه الكريهة اللهثة تتلحق في تتابع محموم .لكن ما آلمني حقا وسوف يظل يؤلمني مدى الحياة هو أنني في اللحظات الخيرة انصهرت في نيرانه بعنف تجاوز عنفه وأنا أنعته بأبشع السباب تنفسيا ضعيفا عن شعوري بالذلل والمهانة والظلم والقهر. في صباح اليوم التالي حصلت على الستاذية مصحوبة بقرار بالموافقة على سفري في بعثة جديدة إلى أمريكا للمرة الرابعة. *** أيها الرجل الغريب ..ابتعد عني ودعني أعيش بقية أيام عمري في سلم. ***