Professional Documents
Culture Documents
عايدة فؤاد
1992
منذ وفاة أم حليم وأبيه في أسبوع واحد وغياب أخته وأخيه نهائيا عنه ،بدأ يتحول إلى إنسان آخر غير ذلك
الذي كنت أعرفه حتى عامين من قبل.
في تدرج سريع وجدته يستبدل بالخمر والموسيقى الكلسيك والروايات والروايات العالمية وكتب الفلسفة،
الذهاب إلى المسجد في أوقات الصلة وغيرها ،وقراءة مجلدات ضخمية للغزالي وابن عربي وجلل الدين الرومي وابن
الفارض والتوحيدى والحلج.
في بداية المر أدركني شعور بالخوف ممتزج بفرحة خفية لتجاه زوجي إلى ال وانعكاس سكينته على وجهه
وصوته وسلوكه معي ومع الولد .لقد أصبح أكثر وداعة وطيبة وحنانا ،لكني كنت أراه في بعض الوقات منقبض
النفس رغم ما قد يبدو من انشراح صدره بسر خفي ل بد أنه توصل إليه ،ل بعقله الشديد الوعي ،إوانما بروحه
الشديدة الشفافية.
اطمأن قلبي ولم تعد تهاجمني نوبات الغيرة القاتلة التي كانت تتعاقب على بين الحين والخر كلما اشتممت
رائحة علقة نسائية جديدة تعبر حياته ..إن أكثر حبي لحليم هو فهم لطبيعته الشديدة النقاء ،فهو ل يحب الكذب ول
يعرفه ول يستطيع – حتى لو أراد – ممارسته في أي مجال يتسع لحركة حياته الجتماعية أو في بيته الذي يحب كل
ركن فيه وكل كائن يتحرك بين أرجائه ،ولو كان صرصو ار صغيرا.
كل امرأة عرفها غيرى عرفتها و توصلت إلى معرفة كيف التقى بها ،إوالى أي حد وصلت العلقة الخفية بينهما.
إن حليم لم يخنى ولن يخونني ولو مرة واحدة مع أي من هؤلء النساء .بل إني أجزم أنه لن يفكر في ذلك أبدا ،غير أنه
إنسان ملول شديد الضجر والقلق ،يبحث في مثل تلك العلقات العابرة عن أشياء غامضة يخفيها عني ربما لنه ل
يعرفها تماما ،يتمنى من قلبه أن يصرح لي بها لول خشيته أن أسيء فهمه فيجرح كرامتي .كنت أقدر فيه صدقه الشديد
مع نفسه حين يخطئ .يقول لي في مثل تلك الحوال إنه غير راض عن نفسه ويترك لي أن أستنتج ما أشاء .هو يخفي
عني إذن لكنه ل يكذب على .هو يعرف غيري أحيانا لكنه ل يخونني أبدا ،لنه ل يستطيع ملمسة جسد امرأة ل يحبها
وتحبه.
لقد امتنع منذ عامين تماما عن تلك العلقات ،بل إن مجاله الجتماعي كاد يكون منحص ار في صداقات
المسجد ،وكلها جديدة .أما في العمل فإنه بطبعه ل يميل إلى الصراع من أجل منصب أو ترقية ولهذا لم يتقدم بخطوات
سريعة نحو الدرجات القيادية العليا.
جاءني يوم وهو في غاية الدهشة واللم ،يشكو بمرارة وحزن من أعز زملئه العاملين معه في الدارة الثقافية
التي يتبعها المتحف.لقد تأكد من دس الزميل وكذبه وخسته لجل الحصول على ترقية يستحقها حليم ول يعبأ بها ول
يسأل عنها فهكذا طبعه الغريب في تلك المسائل ،والحوار معه حولها ل يفيد.
الذي فاجأني في المر أنه أنهار أمامي فجأة في البكاء كطفل صغير .وددت لو أسارع بوضع رأسه على
صدري واحتضنه وأربت على ظهره حتى يهدأ ،ولكني لم أكن في سرعة الفعل على مستوى قوة الشعور ،حين سارع
بوضع ظهر كفيه فوق المائدة مواصل البكاء مم أثار ذهولي فقلت له:
حليم صادق يبكي لجل ترقية؟! ..هذه أكذوبة كبرى. -
أنا أبكي على أمي ..كراهية هذا الزميل ذكرتني بحبها فافتقدتها. -
رحمها ال ،لم تنل إل القليل من اهتمامك في حياتها. -
كانت طباعنا على النقيض وكنت أتخيل أحيانا رغم شدة حبي لها أنها إنسانة بل قلب. -
لنك رومانسي حالم وأمك لم تكن تزيد شيئا عن أية امرأة واقعية طحنتها تجارب الحياة ..وحبها لك كان -
عظيما ولكنك لم تعشه معها.
لم أنتبه لذلك من قبل. -
وهل هناك رجل بحاجة إلى تنبيه من أحد كي يحب أمه أكثر ويهتم بها أكثر؟! -
لم أجد وسيلة أخلصه بها من حالته سوى انتزاعه عنوة والنطلق بالعربة إلى البحر ..هناك فاجأته بتصرف من
تصرفاتي التي يعشقها بينما يصفها بالجنون وهو سعيد بها غاية السعادة ..إذ خلعت ملبسي وهو يحملق في ذاهل
حتى يكتشف من تحتها "المايوه" ..إواذا بي أجرى إلى البحر ملقية بنفسي في مياهه الصافية ،وضحكاتي تجلجل في
الفضاء ،ثم عدت مسرعة إليه أجره ج ار بملبسه كاملة حتى كاد يتوسل إلى أن أدع له فرصة يخلع فيها ملبسه
الخارجية أو حذاءه على القل ،لنه لم يستعد نهائيا لهذه المفاجأة ..لكني لم أعبأ به ..وبعد دقائق كان يحتضنني بين
المواج الهادئة وهو يقهقه بسعادة من القلب ،وهو الذي كان يبكي بحرقة منذ قليل ..قال لي محاول أن تتماسك
أنفاسه:
إني مازلت أعجب للتوافق الغريب الذي ظل يجمع حياة أبي بأمي مع أنهما كانا نقيضين في كل شيء. -
ل تعجب فعندي التفسير القاطع. -
ما هو؟ -
التكامل بين الب الحالم المطمئن بالتوكل على ال والم الواقعية ابنة الحياة الدنيا ،هو الذي أوجد هذا التوافق. -
يا لك من فلتة عبقرية في عالم النفوس البشرية. -
وعدنا إلى البيت وقد تركنا على الشاطئ هما ثقيل وفردة حذاء مفقودة ولحظات من الفرح النساني الذائب في وجد
الوجود.
***