You are on page 1of 3

‫)‪(7‬‬

‫عايدة فؤاد‬
‫‪1992‬‬
‫منذ وفاة أم حليم وأبيه في أسبوع واحد وغياب أخته وأخيه نهائيا عنه‪ ،‬بدأ يتحول إلى إنسان آخر غير ذلك‬
‫الذي كنت أعرفه حتى عامين من قبل‪.‬‬
‫في تدرج سريع وجدته يستبدل بالخمر والموسيقى الكلسيك والروايات والروايات العالمية وكتب الفلسفة‪،‬‬
‫الذهاب إلى المسجد في أوقات الصلة وغيرها‪ ،‬وقراءة مجلدات ضخمية للغزالي وابن عربي وجلل الدين الرومي وابن‬
‫الفارض والتوحيدى والحلج‪.‬‬
‫في بداية المر أدركني شعور بالخوف ممتزج بفرحة خفية لتجاه زوجي إلى ال وانعكاس سكينته على وجهه‬
‫وصوته وسلوكه معي ومع الولد‪ .‬لقد أصبح أكثر وداعة وطيبة وحنانا‪ ،‬لكني كنت أراه في بعض الوقات منقبض‬
‫النفس رغم ما قد يبدو من انشراح صدره بسر خفي ل بد أنه توصل إليه ‪ ،‬ل بعقله الشديد الوعي ‪ ،‬إوانما بروحه‬
‫الشديدة الشفافية‪.‬‬
‫اطمأن قلبي ولم تعد تهاجمني نوبات الغيرة القاتلة التي كانت تتعاقب على بين الحين والخر كلما اشتممت‬
‫رائحة علقة نسائية جديدة تعبر حياته‪ ..‬إن أكثر حبي لحليم هو فهم لطبيعته الشديدة النقاء‪ ،‬فهو ل يحب الكذب ول‬
‫يعرفه ول يستطيع – حتى لو أراد – ممارسته في أي مجال يتسع لحركة حياته الجتماعية أو في بيته الذي يحب كل‬
‫ركن فيه وكل كائن يتحرك بين أرجائه‪ ،‬ولو كان صرصو ار صغيرا‪.‬‬
‫كل امرأة عرفها غيرى عرفتها و توصلت إلى معرفة كيف التقى بها‪ ،‬إوالى أي حد وصلت العلقة الخفية بينهما‪.‬‬
‫إن حليم لم يخنى ولن يخونني ولو مرة واحدة مع أي من هؤلء النساء‪ .‬بل إني أجزم أنه لن يفكر في ذلك أبدا‪ ،‬غير أنه‬
‫إنسان ملول شديد الضجر والقلق‪ ،‬يبحث في مثل تلك العلقات العابرة عن أشياء غامضة يخفيها عني ربما لنه ل‬
‫يعرفها تماما‪ ،‬يتمنى من قلبه أن يصرح لي بها لول خشيته أن أسيء فهمه فيجرح كرامتي‪ .‬كنت أقدر فيه صدقه الشديد‬
‫مع نفسه حين يخطئ‪ .‬يقول لي في مثل تلك الحوال إنه غير راض عن نفسه ويترك لي أن أستنتج ما أشاء‪ .‬هو يخفي‬
‫عني إذن لكنه ل يكذب على‪ .‬هو يعرف غيري أحيانا لكنه ل يخونني أبدا‪ ،‬لنه ل يستطيع ملمسة جسد امرأة ل يحبها‬
‫وتحبه‪.‬‬
‫لقد امتنع منذ عامين تماما عن تلك العلقات‪ ،‬بل إن مجاله الجتماعي كاد يكون منحص ار في صداقات‬
‫المسجد‪ ،‬وكلها جديدة‪ .‬أما في العمل فإنه بطبعه ل يميل إلى الصراع من أجل منصب أو ترقية ولهذا لم يتقدم بخطوات‬
‫سريعة نحو الدرجات القيادية العليا‪.‬‬
‫جاءني يوم وهو في غاية الدهشة واللم‪ ،‬يشكو بمرارة وحزن من أعز زملئه العاملين معه في الدارة الثقافية‬
‫التي يتبعها المتحف‪.‬لقد تأكد من دس الزميل وكذبه وخسته لجل الحصول على ترقية يستحقها حليم ول يعبأ بها ول‬
‫يسأل عنها فهكذا طبعه الغريب في تلك المسائل‪ ،‬والحوار معه حولها ل يفيد‪.‬‬
‫الذي فاجأني في المر أنه أنهار أمامي فجأة في البكاء كطفل صغير‪ .‬وددت لو أسارع بوضع رأسه على‬
‫صدري واحتضنه وأربت على ظهره حتى يهدأ‪ ،‬ولكني لم أكن في سرعة الفعل على مستوى قوة الشعور‪ ،‬حين سارع‬
‫بوضع ظهر كفيه فوق المائدة مواصل البكاء مم أثار ذهولي فقلت له‪:‬‬
‫حليم صادق يبكي لجل ترقية؟!‪ ..‬هذه أكذوبة كبرى‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أنا أبكي على أمي‪ ..‬كراهية هذا الزميل ذكرتني بحبها فافتقدتها‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫رحمها ال‪ ،‬لم تنل إل القليل من اهتمامك في حياتها‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫كانت طباعنا على النقيض وكنت أتخيل أحيانا رغم شدة حبي لها أنها إنسانة بل قلب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لنك رومانسي حالم وأمك لم تكن تزيد شيئا عن أية امرأة واقعية طحنتها تجارب الحياة‪ ..‬وحبها لك كان‬ ‫‪-‬‬
‫عظيما ولكنك لم تعشه معها‪.‬‬
‫لم أنتبه لذلك من قبل‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وهل هناك رجل بحاجة إلى تنبيه من أحد كي يحب أمه أكثر ويهتم بها أكثر؟!‬ ‫‪-‬‬
‫لم أجد وسيلة أخلصه بها من حالته سوى انتزاعه عنوة والنطلق بالعربة إلى البحر‪ ..‬هناك فاجأته بتصرف من‬
‫تصرفاتي التي يعشقها بينما يصفها بالجنون وهو سعيد بها غاية السعادة‪ ..‬إذ خلعت ملبسي وهو يحملق في ذاهل‬
‫حتى يكتشف من تحتها "المايوه"‪ ..‬إواذا بي أجرى إلى البحر ملقية بنفسي في مياهه الصافية‪ ،‬وضحكاتي تجلجل في‬
‫الفضاء‪ ،‬ثم عدت مسرعة إليه أجره ج ار بملبسه كاملة حتى كاد يتوسل إلى أن أدع له فرصة يخلع فيها ملبسه‬
‫الخارجية أو حذاءه على القل‪ ،‬لنه لم يستعد نهائيا لهذه المفاجأة‪ ..‬لكني لم أعبأ به‪ ..‬وبعد دقائق كان يحتضنني بين‬
‫المواج الهادئة وهو يقهقه بسعادة من القلب ‪ ،‬وهو الذي كان يبكي بحرقة منذ قليل‪ ..‬قال لي محاول أن تتماسك‬
‫أنفاسه‪:‬‬
‫إني مازلت أعجب للتوافق الغريب الذي ظل يجمع حياة أبي بأمي مع أنهما كانا نقيضين في كل شيء‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ل تعجب فعندي التفسير القاطع‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ما هو؟‬ ‫‪-‬‬
‫التكامل بين الب الحالم المطمئن بالتوكل على ال والم الواقعية ابنة الحياة الدنيا‪ ،‬هو الذي أوجد هذا التوافق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫يا لك من فلتة عبقرية في عالم النفوس البشرية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وعدنا إلى البيت وقد تركنا على الشاطئ هما ثقيل وفردة حذاء مفقودة ولحظات من الفرح النساني الذائب في وجد‬
‫الوجود‪.‬‬
‫***‬

You might also like