Professional Documents
Culture Documents
حليم صادق
1992
ضربت بأغلى عامين من عمريا -أمضيتها مجاهدا بروحي في القرب من موليا -عرض الحائط ،حين دفعني
جرف الهوى الجامح ،فألقيت بروحي في نهر مريم غير عابئ بما كان من أمريا وما قد يكون ..ولم يبق لي من رحيق
العامين الماضين ورصيدهما سوى التمسك بالصلةا.
هاتفني في برقة خاطفة بينما أقف على محطة التاسعة والربعين .تناسيته في البداية فلم يغفل عني "وأنا الذيا
غفلت عن موليا" .تجاهلته فصار يباغتني قبل الشروق وبعد الغروب وآناء الليل حتى انتبهت إلى إلحاحه ..عندما
اقتربت من نهاية المحطة كان يراودني في صحوى ومنامي وذهابي إوايابي وقيامي وقعوديا وجلوسي ووقوفي وركوعي
وسجوديا إلى ال فيقول لي :مريم ..مريم ..مريم!
ظننته جاءني بالخلصا بعد طول ارتقاب ،فإذا به يجيء بتساؤلت جديدةا حول الجبال الرواسي والشمس التي
تغرب في الغرب والقلب الذيا يعشق حتى الرمق الخير ،والصديق الوفي ،والزمن الذيا يفوت ول يعود ،والذاكرةا التي تنمو
ثم تذبل جارفة معها أشلء الحباء والخصوم.
حدثني عن قنطرةا صغيرةا أعبر عليها من الرغبة إلى الراحة ،وقال إني لم أكن من قبل شيئا مذكورا ،إوانني
سوف ل أدريا بعد العبور ماذا سيكون من أمريا إوالى أين سيكون اتجاهي .سألته المشورةا فطالبني بالجهاد والمكابدةا
وبشرني بالسعادةا البدية وقال لي:
-آن الوان كي تتوقف وتفكر وتتأمل على أعتاب الراحة فربما كنت من الناجين.
***
كان اليوم كالمس كالغد ..موظفون أراهم ول أبصرهم ،أقبع في غرفتي أجتر التكرار في رضا أحيانا وفي ثورةا
حبيسة أحيانا أخرى ..غير أن سماء نافذتي زرقاء تطل على مراكب صيد ونوارس تحلق في الفق ورجال يسعون وموج
يهيم في رحلة أزلية أبدية ..وحين يسود الصمت فل صوت إل وشوشات الموج وهسيس أغصان شجرةا عتيقة تقع تحت
نافذتي ،ووصوصات عصافير تتناوب في رضايا وثورتي بين الفرحة والشجن ..أرى المس في اليوم في الغد فل أبالي
بزمني .أصلي بحرقة إلى ال لئذا بما تبقى لي من عطر العامين الماضيين الروحاني الجميل ..واق أر الفاتحة على أرواح
الموتى القابعين في جوار المتحف ..رهبان وقسس وكهان ونحاتون وفلسفة ومتصوفون وعلماء فلك ورياضة كانوا
ينيرون الدنيا يوما بفنونهم وعلومهم وآدابهم ..رفات عمره ثلثة وعشرون قرنا من الزمان الغابر ل يجاورني فحسب
إوانما يغمرني ويحويني وأحبه.
من بين الرفات وأمام السور الذيا يفصل بين حديقة المبني وشارع البحر ،لمحتها بين مجموعة من السياح
ترتديا ثوبا في لون المصيصا المصريا .تشير بيدها في حركة رشيقة واثقة إلى أحد المقابر الملصقة للمبني .توقفت
قليل عن الحديث واستندت في تلقائية بإحدى ساقيها على السور وراحت تعبث بهدوء في شعرها .وحين اقتربت من
أسفل نافذتي العالية رأيته بعيني قلبي يرفرف من فوقها حامل تحت جناحيه الرقيقين كنانتين حريريتين مليئتين بسهام
من ذهب ورصاصا .ثم حام قليل فوق المقابر وحط فوق النافذةا فصار في مواجهتي .فنظرت إليه في ذهول فأنا لست
أعرف كيف أخاطب الملئكة ول أفهم لغة الطيور .أدرك ما بي من هول فنفحني سهما ذهبيا ونظرةا حنون ،وغاب في
زمنه السحيق.
الوجه المصريا الخمريا الذيا ل ينسى .العينان العسليتان الذهبيتان .الشعر الكستنائي المتماوج ..ونفس
البتسامة الغائصة في لجة من السرار .الدكتورةا مريم عبد الشهيد التي تكبرني الن بما يقرب من أربعة أعوام ..شبيهة
شقيقتي الحبيبة بسمة ..ومعيدتي التي درست لي الثار لعامين متتالين قبل تخرجي في عام .1964
لكن ما الذيا جاء بها إلى هذا المكان وقد حسبت أنها أصبحت أستاذةا في السلك الجامعي وأنها شغلت به
منصبا مرموقا وقد تجاوزت الن الخمسين.
كان العناق ال زلي بين المواج عبقا برائحة التاريخ ،وكانت حديقة الموت تدعوني للتحقق من تلك المفاجأةا.
مازلت يا مريم مليكة على عرش الجمال الفرعوني الفريد .الزمن ألعوبة بين يديك وحدك والكل رفع له راية الستسلم..
هي مريم ول أحد سواها .تمشي في خيلء أوزةا برية .أسمع وقع خطواتها بقلب هش تتهادى على نغمات عود شجية
بين المرمر المصريا والرخام اليوناني وتماثيل الموتى وتوابيتهم ..أسافر إلى الدانوب وأعود إلى النيل في حلم خاطف.
أجلس في مقهى شعبي أدخن المعسل .تتجه بنظراتها نحوى لنلتقي بعد فراق قدريا بين طالب ومعيدته تجاوز من الزمان
ربع قرن وبضع سنوات.
-بعد آخر عودةا لي من أمريكا انتدبتني و ازرةا الثقافة للعمل كمرشدةا سياحية بناء على طلبي ،وأنت ماذا تفعل
هنا؟
تعجبت كيف ارتضت لنفسها بهذه الوظيفة غير اللئقة بمقامها وعلمها ما لم يكن هناك دافع جوهريا لذلك.
أنا مدير المتحف. -
ياه ..بعد كل هذا العمر نلتقي لنعمل معا في مبنى واحد؟! -
المبنى واحد لكني أعمل مع الموات وأنت تعملين مع الحياء. -
لست أدريا أينا ينبغي أن يحسد الخر ..عموما فأنا قادمة لتوى من الكنيسة ولقد طلبت من الرب الخلصا -
للحياء والموات معا.
ولماذا تركت الجامعة؟ -
خلفات عديدةا مع الرؤساء والزملء. -
لماذا؟ ..التنافس على الترقية أم البعثات؟ -
وهناك أسباب أخرى. -
كنت أوجزها لزملئي في القسم بالفتنة الغامضة ،كل العيون تشتهيها في تكتم صاخب عنيف ،ولول صمتها
الوقور ونظرتها الحزينة الحانية لثارت القتال عليها بين جنس الرجال بل تفرقة بين طلبة أو أساتذةا أو سعاةا.
كان سر قوتها الطاغية يكمن في عينيها ،به تصمت فتتكلمان ،وتهمس فتوحيان ،وتومئ فتبتسمان ،وتفكر
فتشردان ..أما فمها الجميل فكان دائما مغلقا على لسانها كخرساء منذ مولدها.
كنت أتحاشي النظر إلى عينيها بقدر كراهيتي لكل ما هو غامض ،ورغم ذلك لم أشعر تجاهها يوما برفض أو
كراهية ،كما لم أقع في كمين فتنتها الخفي الذيا وقع فيه العديد من زملئي الطلبة وزملئها من المعيدين ،إوانما كان
يداخلني قدر من العجاب بشخصها على وجه العموم .وكن واثقا أنها تستشعر بدقة متناهية ما يجول في خواطرنا
جميعا تجاهها كأنثى ذات جمال متفرد في طبعه ،وأنها كانت تخفي سعادتها الفائقة به في براعة ودهاء ،وكأنما إعجاب
الرجال بها – دون أن تمنح أحدهم أمل في اقتحام عالمها الصموت الغامض – هو الحافز الوحد لبقائها على قيد
الحياةا.
ويوما قال لي زميلي سمير زخاريا إنها تخفي غرو ار قاتل خلف ابتسامتها الحيية وتواضعها الشديد وعينيها
السيانتين ،فاتهمته بالحقد لنقطاع أمله في مجرد القتراب من عالم الجمال الذيا يحف بكيانها ليبهر الجميع ،وقلت له
ساخرا:
-قصر ذيل يا أذعر ..مع أنكما من قبيلة واحدةا.
ولم يكن هناك ما يدعو للستفاضة من جانبي في الحديث عنها إذ كانت نظرتي الغالبة ،هي نظرةا التلميذ إلى معيدته،
على عكس نظرتي الصريحة الودود تجاه معيدتنا الخرى "مدينه محمود" التي يتسم سلوكها دوما بالوضوح والصدق
وشدةا الحياء.
***
رغم دهشتها للمفاجأةا القدرية التي جمعتنا فقد أقلت – كعادتها التي لم يغيرها الزمن – من الحديث وأتقنت
الستماع والحوار بعينيها دون كلمات .أما الذيا أدهشني بحق فهو أنها تذكرتني مثلما تذكرتها تماما دون لحظة تفكر
أو تأمل أو استرجاع للزمن ،وكأننا لم نفترق إل منذ أيام قلئل.
لخصت لي عمرها الفائت في ابنها " بشارةا " الذيا تزوج وأنجب واستقر في القاهرةا وقتيا ،تمهيدا لهجرته
النهائية إلى أمريكا ..وفي زوجها الدكتور وفيق ،ذلك الطبيب الذيا وهب حياته للخوف من المستقبل .امتدحت في
خصاله كثيرا .قالت إنها تناديه قائلة يا "بابا" ،فالشعور عنده بالرحمة البوية قوى ،وهو ل يحرمها من شيء تطلبه،
لكنه دائم الخوف أن تفارقه يوما لسبب من السباب وتبقى بأمريكا إلى البد ،المر الذيا يجعله يضاعف من تدليلها
ومعاملتها معاملة الب العطوف لصغرى بناته.
ثم قالت إنها ترتاح لهذا السلوب فى الحياةا لنها ل تستطيع أن تحتمل منغصات العيش مع شاب تنقصه خبرةا
فن التعامل مع امرأةا ذات مواصفات خاصة مثلها.
لم أسمع رنة غرور أو كبرياء في حديثها ولكنها كانت تتكلم عن أمر عاديا جدا يخصها ..ثم قالت إنها في
النهاية لم يبق أمامها من معالم الرحلة إل الوظيفة التي تكرهها وتتمنى أن تتخلصا منها ،والكنيسة التي ل تزورها إل
قليل والنشاط الجتماعي المحدد الخذ في الفتور ،والزيارات التي ل تنقطع للم – صديقاتها الوحيدةا في الحياةا –
وزيارات أخرى للبن صارت تتباعد بمرور السنوات.
لست أدريا لماذا لم أصدق توصيفها الخامل لحياتها فأنا أعرف أنها شعلة من الحركة والطموح ،ولكن لماذا
تكذب إن صدق حدسى؟! لقد انتابتني رغبة عنيفة في أن أفرغ لها في هذا اللقاء الخاطف كل ما بجعبة حياتى من أفراح
وأتراح رغم أنها لم تبد اهتماما مماثل بالسؤال عن حياتي .كانت تتحدث وتستمع وتشعر وتفكر بعينيها المشعتين بقوةا
كالسحر تعبث بالزمن فأعجز عن قراءتها بالتقويم المسيحي أو الهجريا أو العبريا أو القبطي.
قرأت على كفها تعويذةا فرعونية لجلب الحظ وتمنيت النجاةا من قدرةا عينيها على استنطاقي للبوح بما أريد وما
ل أريد ،وقرأت على صفحة الهالة الجميلة الداكنة تحت عينيها أن هناك بئ ار عميقا يحويا أس ار ار ل يباح بها قابعا خلف
هاتين العينين الذهبيتين.
أعادني حياؤها الصامت المتقن إلى تلك اليام الساحرةا من العمر حين لم أكن أدريا أن بلوغ قمم السعادةا
والمتعة والفرح ل بد أن يفضي في النهاية إلى الخوف من فواتها ،وأن كل لذةا مآلها الزوال ،فالموت لها ولنا بالمرصاد.
كنت أظن أنك لن تتذكريني بسهولة. -
مثلك ل ينسى يا حليم. -
لماذا؟ -
ل أعرف. -
كلمات مقتضية يستحيل إيجازها بأكثر مما أوجزتها مريم فلم تزد عليها .مجرد كلمات أفرزتها اللحظة .لكنها
تطن في أذني بإلحاح عجيب قبل أن أتمكن من النوم.
قال لي الهاتف أنك في الطريق إلى الخمسين يا هذا ..والنبض قد بدأ في الخفوت والح اررةا أخذت في
النخفاض ،أما المشاعر فتجمدت وأصبح الحب الوحد والموت قرينين مترادفين ل ينجح في الفصل بينهما شعور
بالذنب أو اجتهاد في إصلح ما أفسدته اليام أو محاولة يائسة لستنهاض خفقة قلب قديمة أو لقاء حب مسروق أو
قبلة مراهقة خاطفة أو حتى تسلق نخلة واحتضان عناقيدها الفتية والعبث بثمارها مع النداد.
إني أدعى السعادةا بأسرتي مثلما تدعى أسرتي السعادةا بكوني ربها البار العطوف بالزوجة والولد ..يحيط بنا
الحب والتفاهم ويضمنا ويحوينا.
رغم ذلك فقد ظللت أنتظر طلوع صباح اليوم التالي طيلة الليل بشوق ما ظننت أبدا أنني سوف أكابد حلو
مرارته في العمر مرةا ثانية.
وفي بحر الحلم سألتني عروس البحر عن عشقي للرقصا والشعر والصحبة والكأس والسهر ،فخلعت عني
نفسي لغرق بإرادتي حتى أستنشق نسمة من عبير الحياةا مرةا أخريا من جديد قبل أن تولى بل عودةا.
قالت لي العروس:
-أنت تريد أن تبدأ من حيث كان ينبغي أن تستعد في أمان للنتهاء.
كانت تقترب من السور في ثوب بلون النجيل وبصحبتها بعض من عمال البناء ،ترتديا نظارةا شمسية وتضع على
شعرها منديل أسود ذا حواش مطرزةا .طال تأملي لها من النافذةا واجتاحني شعور غريب وأيقنت أنني كنت أخشى أل
تحضر مثلما كنت أخشى أن أزوها في مكتبها ،وحين توارت عن أنظاريا ألم بي حزن عجيب ،اقترن بطيف بسمة وقول
زوجها" ألم تكن أرض ال واسعة فتهاجروا فيها" ..وكان الجو غائما ودموعي تنهال في المطار الكئيب من قلبي وعيني
ومن أنفي وفمي قبل أن تهاجر بسمة إلى أبعد قارات الدنيا ..ارتعشت قدمايا وكنت واثقا أنني لن أراها مرةا ثانية.
ولما عادت مريم سألتها عبر التليفون:
لماذا انصرفت مبك ار من الموقع؟ -
كان لديا عمل بعمود السواريا. -
كنت أفكر في دعوتك لتناول الشايا بمكتبي. -
صعب. -
لماذا؟ -
ربما لظروف العمل أو أسلوب تفكير الموظفين ..ل أعرف ماذا أقول. -
كانت بسمة مقلة هي الخرى في كلماتها ،حتى البتسامتان متشابهتان إلى حد كبير ،وكأنما نفخ مفتاح الحياةا في فم
كل منهما في نفس اللحظة.
لكني لن أريا بسمة ولن أنعم حتى بصمتها مرةا أخرى ..ولماذا جاءت مريم بصمتها هي الخرى لتجلس في
الطابق الرضي من نفس المبني لعامين أو ثلثة من حياتي أو ربما لسبعة أعوام حتى تحال إلى التقاعد؟!
قال لي الهاتف " :إن حياتك بحاجة ماسة إلى من تعرف كيف تجلس على عرش قلبك وتتمطى في قلبه وتنام
قريرةا العين ..ويومها سوف تحظى بنعمة القلق الجميل"
***